أرسل أحد الدارسين في الولايات المتحدة رسالة تليفونية تقول قام أحد الباحثين في مجال الفساد الإداري بزيارة أحد الوزراء الأثرياء في مكتبه الكائن في أحد الطوابق العليا للبناية المطلة على النهر وسأله كيف كون ثروته الطائلة؟
قام الوزير وفتح إحدى نوافذ مكتبه وأشار بيده: أترى هذا الجسر؟ لقد كلف البلدية تسعين مليون دولار بينما اعتمد مائة مليون دولار في المصروفات وقد عولجت الضجة الإعلامية التي واكبت هذا المشروع وتم إقفال الملف، قام هذا الباحث بزيارة لاحدى البلدان النامية والغنية وقام بزيارة أحد الوزراء من نفس العينة وفي مجال الرد قام الوزير وفتح نافذة مكتبه وأشار بيده: أترى هذا الجسر؟ لقد كلف الدولة مائة مليون دولار، ولما تساءل الباحث قائلا: لكنني لا أرى جسرا!، اجاب الوزير بحكمة بالغة: الجسر موجود لكن أنت لاتراه، تعطي هذه الطرفة جوابا شافيا عن المقولة التي يرددها عن قصد أو بلاهة الكثيرون بأن الفساد موجود في كل البلدان في العالم، صحيح أن الفساد موجود في كل مكان والمفسدون في الأرض ليس لهم جلود وطنية بل يمكن القول بأن من يريد اجتثاث الفساد والمفسدين بشكل مطلق يجهل مكونات ونوازع البشرية وانعكاس ما يحدث على الأرض وعلى هذا النفس.
وحدهم المتطرفون من معتنقي الجوانب المثالية في الأيدلوجيات يحلمون وربما يرفعون السلاح عبثا لإقامة العدل المطلق على الأرض، الإنسان كان ولايزال هو الخير والشر معا، كل ما يمكن العمل من أجله هو التقليل من انتشار الفساد والحد من كوارثه على الآخرين، الفساد وتحديدا الفساد المالي هو المسبب ولايزال لكل آلام البشرية في الحروب والصراعات والجرائم المنظمة، المجتمعات البشرية ومنذ ان انبثقت الصراعات الاجتماعية القائمة على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان سلكت - هذه المجتمعات - طرقا مختلفة لنصرة الحق وإقامة العدل هذه الطرق التي غلب عليها العنف - الثورات القديمة والمعاصرة - أوصلت شعوب تلك البلدان إلى نوع من المصالحة التاريخية يتم الصراع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي من خلالها سلميا وعبر آليات مدنية لاتقوم مهمتها على اجتثاث الفساد واستئصال المفسدين بل بتقليل حجم الفساد والتقليل من نفوذه وسطوة المفسدين، لقد مثلت هذه الآليات المدنية بديلا عمليا ذا فعالية متزايدة عما كان يقوم به وعاظ الكنائس وطرحت خيارا سلميا يوفر على البشرية ملايين الأرواح على من قد تستهويهم المعارك المسلحة، جملة القول هو أن الفساد جزء تكويني في النفس البشرية يمكن محاصرته والتقليل من أضراره، وبما أن الإنسان هو كائن اجتماعي قبل أي شيء آخر فالطريق لإصلاح الإنسان لن يكون بغير تفاعله مع الإنسان أخا كان أم خصما عبر مسالك وأساليب جربتها البشرية ولا يستدعي الأخذ بها سوى الكف عن الاعتداد الفارغ بإمكاناتنا الذاتية وبمعزل عن تجارب الآخرين، هذا التفكير هو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من مشاعر تقترب من الاعتداد بالفساد، الفساد موجود في روسيا وعصابات المافيا تقتل القضاة هناك، الفساد موجود في بلدان أوروبا الغربية لكن المحاكم تحاصر المفسدين والقانون يسري على الأكثرية وفي أمريكا تنهار المؤسسات العملاقة بسبب الفساد لكن التحقيقات تتسع والإعلام وجمعيات حماية المستهلك تفضح عمليات الفساد وتؤلب الرأي العام ضد المفسدين وفي بلادنا يمكن القول بأن مرحلة نوعية لأشكال الحد من نتائج الفساد المدمرة على الناس والبلد قد بدأت وآخرها ما جاء في إعلان الرياض لمكافحة الفساد عقد مؤخرا والذي دعا صراحة وسائل الإعلام إلى الكشف عن جرائم وسيئات الفساد ومحاربته.