هذه السنة سنة خير.. قالها ابو احمد في المجلس, وأيده الجالسون دون استثناء.. واخذ الحديث يتشعب عن المطر والوسم والكمأ (الفقع) وليالي البر الجميلة.. آه كم هي الايام حلوة هناك حيث الروابي الخضراء ومراتع الصبا.
- تصدقون يا جماعة انا ما اشوف النجوم الا بالبر.. قال احدهم..
- وانا اذا شميت ريحة البر تحسنت صحتي.. رد آخر..
- أما انا ما تصدقون لو اقول لكم ان جميع امراضي تطيب بالبر!
الحديث عن رحلات البر شيق وذو شجون لاينتهي عند حد, حتى ان كثيرا من العوائل تشد الرحال لمسافات بعيدة , يطوون الطريق دون ملل, فقد يصلون الى اعماق الصمان طلبا للهواء النقي والابتعاد عن ضجيج المدينة..
من المعروف ان المطر قد نزل مبكرا هذه السنة عن موعده المعتاد وهو بذلك يدخل في (الوسمي) والذي بقدرة الله تعالى ينبت الكمأ مما يعني ازدهارا في سوق الفقع واستبشار اهل البادية بمقدمه. فالبر سيكون بساطا اخضر تتجول فيه جميع مخلوقات الله لتنهل من خيراته ما شاء لها وتحلق في سمائه الصافية طيور قدمت من شتى انحاء العالم لتنعم في دفئه وتنال من خيراته.
عاد ابو احمد من المجلس وفي مخيلته امر ما..
وعند الصباح ايقظ الاسرة بكاملها.. وقال لهم:
- شرايكم يا عيالي نطلع للبر؟
- موافقين.. موافقين
- انا علي حمل التلفزيون
- وانا علي حمل الدش
- وانا علي البلاي ستيشن
صفق مبارك يدا بيد وقال:
- أفا عليكم يا عيالي ما ظنيتكم مدمغين لهذه الدرجة.
واخذ مبارك يؤنب ابناءه لما بدر منهم من تقديم القشور على اللب والثانويات على الاولويات وطلب منهم الاستعداد لرحلة لم تخطر لهم على بال..
قام ابو احمد بتوزيع الادوار على ابنائه على النحو التالي:
يقوم احمد باعداد القائمة الاساسية لاغراض الرحلة وابراهيم عليه قائمة الالعاب الترفيهية وعامر عليه تهيئة السيارة للرحلة اما ام احمد وبنياتها فعليهن عدة الطبخ ومستلزماته وانا سأقوم باعدام المخيم ومتطلباته.. هذه هي المهمات الكبار على الابناء الصغار..
نفذ الابناء بالتمام والكمال ما انيط بهم واعدوا العدة وشدوا الرحال..
نصب المخيم الصغير على رابية خضراء نظيفة.. وسط مخيمات متناثرة كعقد اللؤلؤ.. ولنلق نظرة سريعة على برنامج رحلة ابو احمد العائلية:
بعد صلاة الفجر يقوم احمد باطراء حديث شيق من احاديث حبيبنا المصطفى (صلاة ربي وسلامه عليه) لتعمر القلوب بذكر الله, بعدها وعند بزوغ الشمس ينطلق الباحثون عن (ملح الرحلة) الفقع والمولعين بالمشي في البكور بتمشيط البر عن بكرة ابيه, احمد ينبش الارض برمح بيده وابراهيم بعود مدبب وعامر بسكين اما الاب فقد استعد بـ (حفارة الفقع) وانشغل الباحثون وعيونهم نحو الارض يطوون الفيافي طيا.
وما ان ترتفع الشمس قيد رمح حتى يعود الجوالون الى المخيم حيث تستقبلهم ام احمد وبنياتها بوجه هاش باش لتقدم لهم ما لذ وطاب من اطايب الطعام على (السفرة البرية) , لها طعم واي طعم ذلكم هو الفطور.
بعدها يتجه الجميع, الصغار والكبار للاستعداد للمنافسة في لعبة كرة القدم التي تطوي الساعات والساعات حتى صلاة الظهر.. ثم الغداء والقيلولة..
وبعد صلاة العصر تشتد المنافسة في لعبة (الكرة الطائرة) وشد الحبل وتعود ذكريات الماضي لدى ابو احمد وام احمد ليلقنوا درسا لجيل الحاضر لن ينسوه..
يناديهم ابو احمد ويقول:
تعالوا نلعب (شطيطي) و(عظيم سري) و(وير وانقطع السير) وألعاب لاتنتهي.
ألعاب وكأنها طلاسم لكنها ذات نكهة تفوق ما يخلطه العطارون وما يمزجه العصارون..
وعند مغيب الشمس يحلو التحلق حول موقد النار وما احلاها في البراري..
وبعد الصلوات المفروضة والاحاديث الماتعة عن سيرة خاتم الانبياء تبدأ المسامرات الليلية والالعاب الشعبية التي افتقدناها نحن الكبار ونسيها ابناؤنا الصغار.
- تبون نلعب الغاز والا عظيم سارى والا محيبس؟ سأل ابو احمد عياله.. وسرى اللغط والمشاحنة والمشاجرة كل يريد ما يفضله..
- نعمل تصويت.. اقترحت ام احمد على الجميع فالتزموا الصمت.
واستقر الجميع على الحزاوي والغطاوي يطلقها ابو احمد بلسانه العذب.. وانشد حادي الليل.
- انشدك عن شيء.. ياكل من فوق ويهرهر من حدر.. ما يلد وما يشرب وحليب ما يدر؟ خيم الصمت على الحضور. الكل مبرطم لا يقدر على حل اللغز..
- انشدك عن فلوة.. تأكل البرسيم والخس.. اسمها بالفاء يبدأ وتنباع بسوق الرس ضحكت ام احمد فهي تعرف الجواب, هنا تحلق الجميع حولها مستعطفينها للظفر بالجواب.
هنا وفي هذه اللحظة تنساب دمعة على خد ابو احمد معلنة قمة الفرح التي لا تعدل شيئا في الدنيا, هنا حيث ابناؤه وبناته وام الخير تحت سقف واحد وفي رقعة مربعة (4x4م) تجمعت الاسرة حول الوالدين وكلهم تغمرهم البهجة والحنان.
لتوه يراهم ابو احمد ولاول مرة بهذه الهيئة, هناك في المدينة في الفيلا الفاخرة, انهم مشتتون في الغرف, كل له قناته الخاصة!
الغريب انهم لم يسألوا عن التلفزيون وملحقاته! هل لهذا البر سحر مميز؟ يسأل ابو احمد نصفه الآخر والتي يراها لاول مرة بدرا عند اكتماله, جمال عفوي لم يره من قبل في وجه شريكة حياته.
كانت وجوههم في المدينة ميممة نحو التلفزيون , تأكل وتنام عليه في الصالة والمجلس وحتى في غرفة النوم.
كان يوما حافلا بالخيرات فالنفوس هادئة والقلوب مطمئنة لذا تجدها تنام ملء الجفون تنتظر فجرا جديدا ليولد معه يوم جميل بين احضان الطبيعة.
@@ عبدالعزيز بن مشرف