جماعة «بوكو حرام»، فصيل «جهادي» آخر من لائحة عريضة من «الجهاديات» التي تعج بها الساحة العربية والإسلامية، وهي الجماعات الإسلامية الحركية التي تناسلت مثل الفطر خلال العقدين الأخيرين، لأسباب ذاتية/ محلية وأخرى موضوعية، وتعتبر الجماعة من أشد الجماعات «الجهادية» ضراوة في شمال أفريقيا
كان على الرأي العام العالمي انتظار تباين الأخبار بخصوص الإفراج عن رهائن لدى جماعة «بوكو حرام»، حتى يتذكر، فجأة، أن الجماعة «الجهادية»، التي تنافس تنظيم «داعش» على إعلان «دولة الخلافة»، صنعت الحدث عالميا، عندما تأكد تورطها المباشر في اختطاف أكثر من 290 فتاة في مقتبل العمر، باعتبارهن «سبايا حرب»، وذلك في غضون مارس الماضي، بحكم إحداث الرعب الداعشي من جهة، والهوس المرضي اللصيق بفيروس «إيبولا»، طغى بشكل كبير على أحداث الساحة.
جاءت المستجدات إذاً، مع إعلان الرئيس الكاميروني بول بيا الإفراج عن 27 رهينة يعتقد أنهم كانوا مختطفين لدى الجماعة، بينهم عمال صينيون، كما أفرج أيضاً عن زوجة نائب رئيس الوزراء.
بعد هذا المستجد، تضاربت الأنباء عن إطلاق الجماعة رهائن جُددا، من النساء تحديداً، إلى درجة أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لم يتمالك نفسه، وهو يخاطب شعبه في مناسبة رسمية، بأن الخبر يُعتبر نقطة ضوء في واقع الأخبار «الجهادية» السيئة (على هامش حديثه عن الوضع في العراق وسوريا)، قبل أن يتراجع لاحقاً (في ذات اليوم عن مضمون التصريح، بسبب تأكيده من المسؤولين في نيجيريا).
أسهم جهادية في تصاعد
جماعة «بوكو حرام»، فصيل «جهادي» آخر من لائحة عريضة من «الجهاديات» التي تعج بها الساحة العربية والإسلامية، وهي الجماعات الإسلامية الحركية التي تناسلت مثل الفطر خلال العقدين الأخيرين، لأسباب ذاتية/ محلية وأخرى موضوعية، وتعتبر الجماعة من أشد الجماعات «الجهادية» ضراوة في شمال أفريقيا، حتى إنها متورطة في مقتل أكثر من 4 آلاف شخص في عام 2014، وتتمركز قاعدة الجماعة أساساً في غابات «سامبيسا» في شمال شرق نيجيريا، حيث يتراوح جيشها بين المئات وآلاف المقاتلين.
أسسَّ الجماعة محمد يوسف في عام 2002، وهو داعية إسلامي حركي يحلمُ بإقامة دولة إسلامية في نيجيريا، وقتل في عام 2009 بينما كانت تحتجزه الشرطة، قبل أن يتولى أبو بكر شيكو زعامة الجماعة حالياً، وهو الذي بزغ نجمه على هامش الهجوم الذي شنته الجماعة على مدينة «كانو» النيجيرية، وخلف نحو 200 شخص بين قتيل وجريح، مصرحاً في شريط فيديو أذيع في عام 2012: «أستمتع بقتل أي شخص يعادي الله، كما استمتع بقتل الدجاج والكباش».
أبو بكر شيكو صرّح في نفس الشريط أنه يراهن على خطف الفتيات، وبيعهن في السوق، فيما اعتبر حينها مجرد مزايدات كلامية وتصريحات للدعاية والإثارة، قبل أن يصطدم الرأي العام بحادثة اختطاف 290 فتاة، (مع هروب بضع عشرات منهن لاحقا، في غضون بضعة أشهر بعد خطفهن، ليبقى عدد المختطفات 223 امرأة وفتاة).
صدمة عائلات الفتيات كانت لا تطاق، لأن الأمر ليس بالهزل، فنحن إزاء جماعة تعارض أصلاً تعليم الفتيات، وصريحة أيضاً في خطف الفتيات لاستخدامهن كطاهيات وكعبيد، وفي إرغامهن على اعتناق الإسلام، وأن يروق ذلك للنيجيريين أم لا، ومعهم الرأي العام الإقليمي والدولي، هذا أمر خارج حسابات الجهاز المفاهيمي للجماعة، الذي يكاد يتقاطع مع الجهاز المفاهيمي لأتباع «داعش»، مع فارق أو جرائم جماعة «بوكو حرام»، لم تصل بعدُ إلى وحشية جرائم وإرهاب «الداعشيين»، ومن هنا آمال صناع القرار في نيجيريا والدول المجاورة، من أجل إيجاد مخرج عملي يخدم مصالح الجميع: الجماعة والدولة النيجيرية وعائلات الفتيات المختطفات.
محددات تحول «بوكو حرام» نحو التطرف
كانت جماعة «بوكو حرام» مثل باقي الحركات الإسلامية «الجهادية»، دون أن تثير الكثير من اللغط الأمني والسياسي والإعلامي لولا ظهور بعض المستجدات التي دفعت الجماعة لأن تتجه نحو التطرف الإسلامي، ويمكن اختزال أهم هذه التطورات في نقاط ثلاث:
ـ هناك أولاً تبعات اغتيال مؤسس و«مرشد» الجماعة، محمد يوسف في عام 2002، بكل التبعات النفسية والتنظيمية التي خلفها الحدث على الأتباع والقواعد، ممن اتجهت بهم السبُلُ نحو المزيد من التشدد في التعامل مع الخصوم (في الحكومة والعرق والدين).
ـ هناك ثانياً عمليات «التطهير العرقي» في ولاية «جوس» ضد المسلمين، وهي العمليات التي أفضت، كرد مضاد، إلى انخراط أعضاء الجماعة في مهاجمة قوات الأمن واستهداف المدنيين المسيحيين، بل وصل الأمر إلى درجة الاعتداء على مكتب الأمم المتحدة في العاصمة النيجيرية أبوجا (أودى الهجوم بحياة 25 شخصاً وإصابة أكثر من 100 آخرين).
ـ وهناك أخيراً، فشل مساعي الرئيس النيجيري الحالي جودلاك جوناثان في إنجاز مصالحة مع الجماعة، حيث كانت الدولة النيجيرية على تفادي وضع الجماعة على لوائح الإرهاب، إلا أن الأمر تغيّر حالياً، فقد أدرجت الأمم المتحدة مؤخراً الجماعة على قوائم الإرهاب، وكانت الولايات المتحدة قد وضعت جماعة بوكو حرام على قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية في 13 نوفمبر 2013. (سبق للخارجية الأمريكية أن رصدت في 21 يونيو 2012 مكافأة بقيمة 7 ملايين دولار لمن يقبض على أبي بكر شيكاو).
في تجميع هذه المحددات، نخلُصُ في الصورة الإعلامية التي أصبحت لصيقة بالجماعة اليوم: الانتصار لأطروحة سعي نحو «الحاكمية»، تحريم الديمقراطية، تجسيد «الفرقة الناجية»، تحريم التعليم في مدارس الحكومة، في إطار سياق أكبر، شعاره تحريم العمل في مؤسسات الحكومة ما دامت هذه الأخيرة «حكومة كافرة».
جيل ثالث من «الجهاديين»
لم يسبق للحركات الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء أن وصلت إلى هذا الدرك من التطرف والتشدد، خاصة أن المنطقة معروف عنها النهل من مرجعية إسلامية صوفية معتدلة، معادية بالمرة للمرجعية الإسلامية «الجهادية»، فما الذي حصل حتى ننتقل من ظهور حركات سلفية معتدلة، إلى حركات سلفية «جهادية»؟
يذهب سمير الحمادي، الباحث المغربي المتخصص في الحركات الإسلامية «الجهادية»، ومؤلف كتاب «الوهم المقدس: الإسلام الحركي الجهادي المعاصر» (2013)، فالجماعة صارت بعد عام 2009، أكثر تطرفاً من ذي قبل، وعام 2009، هو تاريخ مقتل زعيمها المؤسس، الذي خلفه قيادي يوصف بكونه أكثر تطرفاً من محمد يوسف نفسه: شخص يميل إلى العنف بشكل مفرط وخطير، وهو أيضاً غريب الأطوار، إذ سبق أن هدد بتصفية قادة دوليين رحلوا عنا، مثل رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر والبابا يوحنا بولس الثاني، والمفارقة أن شيكاو هذا هو الوحيد في جماعته الذي تلقى تعليماً جامعياً على مستوى الدراسات العليا في الشريعة والقانون، من هنا جاءت تسميته بدار التوحيد على أساس تبحره في العلوم الدينية.
ويُصنف الحمادي جماعة «بوكو حرام» ضمن الجيل الثالث من الجماعات السلفية المقاتلة التي تميل إلى الفكر السلفي التكفيري أكثر من الفكر السلفي الجهادي. ظهر الجيل الأول في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي (بعد هزيمة يونيو 1967)، أما الجيل الثاني، فظهر بعد حرب الخليج الثانية (1990/1991)، ويمثله بشكل أساسي تنظيم «القاعدة».
مقايضة أرواح الفتيات بالأرصدة البنكية
تعقيدات الحالة النيجيرية، وحساسية الملف أيضاً، بالنظر إلى أنه ـ مرة أخرى ـ يساهم في الإساءة إلى صورة المسلمين في ما بينهم أولاً، قبل الإساءة أمام الغير، دفعت بوكيل الأمين العام للأمم المتحدة جياندومينيكو بيكو ـ في تصريحات خص بها موقع «ديلي بيست الإخباري» (وهو مسؤول أممي نجح في تحرير أكثر من مئات الرهائن خلال حياته المهنية في الأمم المتحدة) للتأكيد أن ملف الفتيات المختطفات «لا يمكن حله بين الحكومات، وينبغي إيجاد شخص على دراية بأدق تفاصيل حياتهم الشخصية»، مقترحا وساطة رسمية للسعودية، ليس فقط بحكم ثقل العلاقات النيجيرية ـ السعودية، ولكن أيضاً، بحكم امتلاك المسؤولين في السعودية الخبرة الامنية في تفكيك التنظيمات الارهابية، ولترسانة من المعلومات والمعطيات حول الحركات الإسلامية «الجهادية» في المنطقة.
وتصب بعض القراءات في التركيز على المخرج المادي (المالي) لهذه الأزمة، وإذا كان مؤكداً أن جماعة «بوكو حرام»، وتنظيم «داعش» وأغلب الحركات الإسلامية «الجهادية»، تنهل من اجتهادات دينية شاذة ومتطرفة، فمن المؤكد أيضاً أن هناك اختلافا في سياقات وأحوال كل حركة مقارنة مع الباقي.
في الحالة النيجيرية، العوامل الاجتماعية (الفقر والأمية على الخصوص) حاضرة بقوة، وهذا معطى هام توقفت عنده مجلة «تايم» الأمريكية، والتي اعتبرت أن الجماعة انتشرت في أفقر منطقة في نيجيريا، ومنها كذلك ـ كما أشار الباحث سمير الحمادي سلفاً ـ أن الجماعة ازدادت عنفاً وشراسة بعد مقتل مؤسسها بينما كانت تحتجزه الشرطة، وثالثها أن استخدام الخيار العسكري لمواجهتهم يمكن أن يجعل الأمور أسوأ من ذي قبل، ورابعها أنهم يبدون أكثر شراسة وتطرفاً من تنظيم «القاعدة».
في سياق توظيف العامل المالي لتسوية الأزمة، وعلى غرار ما حصل خلال العقد الأخير في العديد من حالات اختطاف الرهائن الأوروبيين في القارة الإفريقية، من قِبل الجماعات الإسلامية «الجهادية»، ثمة تغليب لخيار التفاوض مع جماعة «بوكو حرام»، والذهاب بعيداً في عرض دفع فدية كبيرة.
وأخذاً بعين الاعتبار الصمت الذي يصاحب عمليات التفاوض على تحرير الرهائن، كما جرت به الأعراف في العالم بأسره، فإن كل المؤشرات تفيد أن تسوية هذا الملف لن تخرج على الأرجح عبر بوابة مقايضة أرواح الفتيات بمبالغ مالية كبيرة، دون أن تكون هذه التسوية المفترضة والمتوقعة عند بعض المتفائلين، أرضية لسحب البساط عن مشروع جماعة تتجه أكثر فأكثر نحو التشدد والتطرف، تغذية لمشروع أكبر وأخطر، يحمل عنوان: «اختطاف الإسلام» من أهله.