أعتقد أن لكلِّ مدينةٍ روحاً.
تتجلى هذه الروح في شوارعها، وجاداتها، وأجوائها، وتخطيطها أو حتى بعشوائيتها، وفي أعمدة الكهرباء بين البيوت وعبر الساحات، في مسام جدرانها، ولون أشجارها، أو مضاهاتها لصحرائها.. والأهم في مجاميع طباع ناسِها.
لو سألتموني ما طبيعة روح مدينة حائل؟ لقلت لكم: "طيبتها، وجمال أجوائها، وفتنة جبالها تطوقها عبر الآزال، وتشع روحها بتاج صفاتها، الكرم. يجري الكرمُ سهلا اعتياديا تلقائيا كمن يتنفس الهواء، ويشرب الماء، وكأن الكرمَ بتشريح الناس وبألق المدينة، ليس اكتسابا من اكتسابات السلوك والطبائع، وبجمال ناسها حتى ظننتُ أن الحائليين سرقوا القطعةَ الأكبر من كعكة الجمال، ثم، الثقافة العفوية بين العموم.
أسمّي رحلتي لحائل «رحلة البرَكات الأربع».
بدعوةٍ من جامعة حائل ممثلة بصديقي وزميلي السابق في الشورى الدكتور ابراهيم خليل الابراهيم، وبضغط حلو متواصل خاص من الدكتور عبدالله الفوزان والذي كان يوما مقدما لبرنامج ناجح، والدكتور عبدالله يقطر الكلام من فمه كما تُقطّر أعذبُ المياه.
أول البركَة، شابٌ رأيته بقاعة مطار الملك فهد بالدمام -وأشكر إدارة المطار على التحسّن الأدائي والذوقي الواضحَيْن- وتبادلت معه حديثا لطيفا جعلني أتمنى أن يكون صديقا فضائيا ويجلس بالمقعد الذي بجانب مقعدي، بقى المقعد فارغا حتى آخر لحظة، ثم أتى الشاب، وحصل ما تمنيته. وتحدثنا في الأدب والفلسفة والماورائيات، مع أنه يدرس الماجستير بالكيمياء بمانشستر. أما أيقونة الرحلة وبهاؤها فهو الرائع المضيف بالطائرة موسى عبدالله المليحان، ولو كنتُ مسؤولا في "السعودية" لوضعته وجهَاً لإعلاناتها، وجه سعودي وطني خالص، مع بسمة قلبية لا تجف ولا تضيع.. ومعاملتة للركاب ذكرني بمثل أمي المعتاد "يا زبيدة لا تنكبين".
الشاب فهد صديقي الفضائي أصر أن يعزمني ببيته والإصرار ليس «إتيكيتيا» بل كما تجري به عادة طبيعة الحائليين، وكنت قبل الوصول هاتفني حائليون للاستضافة. أولُ وجهٍ قابلني هو سائق جامعة حائل أبوعبدالله، رمحي القائمة، به تلك القسامة الحائلية، ثم الأخ الفاضل مسؤول العلاقات بالجامعة وقد انتظرني بقاعات التشريف التي لا أعرف عنها شيئا فلم استخدمها ولا أظني طوعا سأستخدمها، هو الأخ درعان الدرعان.
درعان لا يدلف للقلب، بل وكأنه ساكن به ثم خرج يطلّ عليك.
تغدينا بذات اليوم مع الدكتور خليل الابراهيم مدير الجامعة والدكتور اللطيف عبدالله الفوزان، ثم أخذني الدكتور خليل لجولةٍ داخل حرم الجامعة، ولا تظنّوا أنه حرم جامعي فقط بل مدينة حقيقية على اتساع تسعة ملايين متر مربع، ومعمارٌ مترامٍ للكليات ولسكن الطلبات والطلبة، والمستشفى، والإدارة، وقاعات البحوث، أصولٌ تتمناها أي جامعة كبرى بالعالم.. وأنتظر من الخمسين ألفا من الطالبات والطلبة الذين يؤمّونوها أن يكونوا نوعيّو التعليم وسيتأتى ذلك لو تضافر الجهد التعليمي والجدية الأكاديمية مع أصول الجامعة المهولة. وكانت هذه البركة الثانية.
أما البركة الثالثة، فهي طبيعة الحوارات التي جرت مع طلبة الجامعة وهيئتها التعليمية، وكان قد قدمني د. الفوزان بأسلوب لا يخلو من الفكاهة.. الطيبة.
أما البركة الرابعة، فلم يطل مقامي بحائل أكثر من 24 ساعة، وتغيرت رحلتي ثلاث مرات، واستقرت على الثالثة، وعندما ركبت الطائرة، يالصُدَفِ، خمنوا من أول وجهٍ رأيت؟ نعم صدقتم، الشاب المليح موسى المليحان.. وكانت أوقاتٌ لا تنسى.
وتلكم.. البركة الرابعة.لمُ