في مداخلة سريعة مع مذيعة الإم بي سي، وهي تقرأ أخبار الساعة التاسعة مساء، سألتني عن الفتاوى المضحكة التي يطلقها من يخلعون على أنفسهم صفة الاستطاعة لإطلاق الفتاوى. وذكرت من الفتاوى من حرّم البوفيه، ومن افتى بأنه يجوز لمن يتقدم لفتاةٍ أن يراها كما خلقها ربها من خلال ثقب وهي تستحم(!). هنا وبسرعة قلت لها هذه الأشياء مضحكة فعلا، ولكنها لا يمكن أن تسمى فتاوى. مضحكة نعم، فتاوى لا. لا يجوز أن نطلق أصلا على هذه الأشياء المضحكة صفة الفتوى.
الفتوى ليست أمرا هينا بالإسلام، لأنها قضية تشريعية كبرى تمس الدنيا والآخرة. والإجماع في الفتوى من مصادر التشريع الإسلامي. وتجد أنه لا تُمس الأمور الدستورية في النظم الأممية الموضوعة، فما بالك بمسألة الشرع الإسلامي الذي يفوق مكانة وحساسية وتأصيلا أي نظام أرضي. الآن اسْتُرخِصَت الفتاوى، وكل من عنَّ له أن يمسك ميكرفونا أو يخرج أمام الكاميرا أو أي وسيلة تواصل يلقي الفتاوى كمن يوزع الطرائف والنكات، لا يمكن أن يكون هؤلاء الناس أصحاب علم وحكمة شرعيتين. لا يجوز لفرد واحد أن يفتي دون الرجوع للعلماء والمجتهدين الكبار، فالأمر أعظم من كل ما يمكن لعالم اجتراحه وحيدا. هذا هو واقع الفتوى الحقيقي، لذا جاء من مصادر التشريع كما أسلفت.
وتعرفون أنه ثار خلاف بين الأصوليين حول وضع تعريف واحد للإجماع، وهنا يمكنك أن تقدر مدى حرصهم وحساسيتهم وحتى خوفهم من الوثوق بتعريف واحد لهيبة موقف الفتوى. فالإمام الغزالي مثلا يعرفه بأنه: "اتفاق أمة محمد (صلى الله عليه وسلم)، على أمرٍ من الأمور الدينية"، فتصور هذا الحرص العظيم المهيب على موضوع الفتوى وعمق تأصيله. وأعطيك قول الغفاري وجمهور العلماء في تعريف الإجماع بأنه "اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر من العصور على حكم شرعي".
أما سبب الاختلاف بين الأصوليين فهو أمر شائك لا يكفي التعرض له هنا. وباختصارٍ عاصِرٍ أن كل عالم يجتهد ألاّ يخالف أقوال من سبقوه من فقهاء بلده، فأبو حنيفة مثلا كان يحرص على اتباع كل ما هو اجماع لمن سبقوه من علماء أهل الكوفة، وهكذا.
وأمر آخر، يعطيك أن هؤلاء الناس الذين يطلقون هذه الأشياء المضحكة مفصولون عن الواقع تماما. وخطابي أيضا للعلماء الشرعيين. كيف نغرق في أمور تفصيلية وأحيانا يشملها الضعف والرخاوة، وبعضها حتى يهدد وحدة الأمة ويفرق صفوفها، بينما الأمة بكاملها معرضة لأمور عظمى قريبة أقرب من أنوفنا، تهز أمننا، وتزعج سكينتنا، سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية وتقنية وفنية بعالم يتغير باللحظة؟ نحتاج لعلمائنا أن يواكبوا هذه التغيرات وما يجد بعدها ونوازلها وتوابعها، كي ينيروا الدرب الصحيح، من التشريع الصحيح، للهدف الصحيح.
وأسأل عن المجمعات الفقهية التي برأيي تقوم مكان مجتهدي الأمة الذين كان بالإمكان حصرهم قديما، ويستحيل الآن. هذه المجمعات أو من يتم اختيارهم من العلماء القادرين لتنظيم الفتوى من خلال الاجماع حسب ما يقدّرونه في زماننا.
ونسأل الله لنا جميعا التوفيق والهداية.. والحكمة.