أكتب اليوم بهدف التفكير والتأمل، بهدف التعزيز والحث والتشجيع، أكتب عن شيء شبيه بآلة الحديد، تتعطل، تتآكل، تتقادم، إلى أن تتوقف عن العمل نهائيا، آلة قابلة للإصلاح، يُعاد استخدامها بعد كل عملية ترميم وتجديد، يمكن تطوير الآلة للحصول على أداء أفضل وأحسن، يمكن استبدال الآلة القديمة بأخرى، أكثر فاعلية وكفاءة، أفضل أداء وتطورا، هكذا مع كل تقنيات الحضارة.
أكتب عن الذّات البشرية، أشبه بآلة بناء، بأداة عمل، بمؤشر، بقاضٍ ومتهم، بخصم وصديق، بحاكم ومحكوم، أكتب عن الذّات كمجمع صحي، يعالج، يشخص، يحدد الاحتياجات، أشبه بورشة للعلاج والتطوير والإصلاح، الذّات البشرية وعاء يتقبل حمل كل شيء، كنتيجة قالت العرب: كل إناء بما فيه ينضح، وقالت أيضا: الفرد مخبر وليس مظهرا.
كل ذات أشبه بنسيج، حاكته ظروف اجتماعية واقتصادية، سياسية وتاريخية، ثقافية وبيئية، الذّات وعاء يحمل الماضي والحاضر، يتأثر بمكوناتهما، الذّات وعاء يشكل قوالب نتائج تفاعل الحاضر وقراراته، الذّات تشكل المستقبل بما تنقله من معلومات وأفكار ومعارف، عندها ومعها أرى الذّات بناء ضخما، لوعاء يمكن تشكيله، يمكن صناعته، يمكن منحه ألوانا مختلفة، لا نرى الذّات البشرية، لكن نرى تصرفاتها وسلوكها وأداءها، ثم نحكم على شخص حاملها.
تتشكل الذّات وتتأثر بمعطيات الفهم، معطيات تفسير الرموز التي تحسها، الفهم غير الصحيح يجعل الذات غير سوية، الفهم غير الصحيح إعاقة جائرة، تتأثر الذات بكيفية قراءة المؤشرات، بقوالب التصرفات والسلوك والأداء، الذّات البشرية يمكن أن تكون أرضا صحراء مجدبة، يمكن أن تكون أرضا قاحلة ميئوسا من استصلاحها، يمكن أن تكون أرضا خصبة نافعة، السؤال: كيف لها أن تكون أو تصبح كذلك؟! كيف لها أن تختلف من فرد لآخر؟!
الذّات البشرية لا تختلف عن إصدارات (الجوالات) التي نعرف، إصدار جديد مطور، نشتريه بأغلى الأثمان، نترك الإصدار السابق وهو يعمل، نُغيّر للبحث عن الأفضل والأحسن، هذا مطلب إنساني، السؤال: لماذا لا يتم هذا مع الذّات التي نحمل؟! لماذا يترك الفرد ذاته دون تطوير وإصلاح؟!
إذا كان في الآلات النسخة الصفر، فإن للذّات أيضا النسخة الصفر، يقول الله سبحانه: «وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا» سورة النحل «78». الجهل هو الأساس، ثم يبدأ الشحن، تتشكل القوالب، نتاجها (أنا) و(أنت) و(هي)، بذات مختلفة الأحمال والبناء والأداء، يمكن عمل نسخ متعددة، متجددة.
لا يتوقف تجديد الذّات إلا بالموت، البعض يتشبث بنسخة واحدة، تكونت في مرحلة، لظروف مختلفة، يمسك بها ويحتفظ، تصبح نسخة متصلبة ثابتة، لا تتغير، لا تتجدد، عندها فقط ينقطع الفرد بذاته في متاهات التخلف، قطع عن ذاته سريان الدم المتجدد، يبقى أسيرا لمكونات لا تتجدد، تتقادم، والنّاس من حوله تتجدد، تتطور، تبني ذاتا جديدة.
الذّات كيانك البشري يحتاج الى تجديد وتطوير، لكن لا يتحقق في ظل غياب عمل طاقات الجسد، الإنسان يتغير، لكن كيف؟! يتغير بتغير معلوماته، وأفكاره، ومهاراته، وسلوكه، ومعارفه، أنت القاضي والحكم على ذاتك، ماذا تختار، ولماذا؟! سجن الذّات إفساد لوظيفتها، متى تُسجن الذّات؟! تُسجن الذّات في/ وبين مخلّفات وأكوام نتاج التاريخ وغموضه، بحجة القيم والثوابت، في الأصل أن تكون الذّات حرة طليقة، انظروا الى الدعوات المتكررة في القرآن الكريم، بضرورة التفكير والتأمل والتدبّر، لماذا تجعل من ذاتك نصّا ثابتا أحفوريا؟!
انغلاق الذّات يقيد حركتها وفهمها وأداءها، الطبيعي أن يكون لك ذات متغيرة مفعمة بالنشاط، تتفاعل، تحلل، تستنتج، وتتخذ القرار، تضمحل الذّات إذا أصبحت أسيرة طقوس وقيم بالية، فهل تسلم ذاتك لظروف من سبقوك من البشر؟! أموات يحكمون ذاتا حية، تصبح أسيرة لظروف ماتت معهم، هكذا نرث الذّات ولا نصنعها، لهذا الوضع نتائجه واستنتاجاته وآثاره السلبية، على الحاضر والمستقبل.
الطبيعي أن تضيف إلى محاسن الماضي محاسن جديدة، يقول صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، التطوير يعني تبنّي الأفضل وتطوير القائم، يعني التفكير والطموح والإبداع والعمل والتعلم، طاقات يجب استغلالها من أجل ذات أفضل، لحياة أفضل وأكفأ، العبادات تطهير للذات، تجعلها نقية للقيام بدورها الإنساني، وليس تحويلها الى أداة جامدة، البعض يحول الذات إلى أداة للقتل، والفساد، والإفساد، والتنغيص، والبغضاء، والكراهية، والأحقاد، البعض لا يبني ذاته، يرثها ثم يورثها بخرابها، هذا تعطيل لقدرات الذّات وعظمتها.
* أكاديمي- جامعة الملك فيصل