مفهوم "الملكية النفسية" وعندما نستعيره من حقل العلوم الإدارية ونطبقه في مجال الأدب والإبداع وبالذات في العملية السردية، فنحن نختبر فيه مدى حضور شخصية القاص في منجزه الإبداعي، وكذلك مقدرته على خلق التوازن بين سطوة الذاكرة وغواية المخيلة من جهة أخرى. فبين الواقع والمجاز مساحة لا تكاد تتسع للقاص أن تبقيه واقفاً على أرض صلبة، تتحرك من حوله دوامات مائية جارفة يدفعها محركان هائلان هما طوفان الذاكرة وإعصار المخيلة الجارف. فعندما يتخفف القاص من سطوة الذاكرة والتي تمده بالخبرات الضرورية في عملية صناعة الشخصية وصفاتها المُحتملة، فهو يندفع وبشكل آلي نحو غواية المخيلة ومقدرتها المثيرة على فعل الخلق واعادة تركيب الأشياء في غير صورتها الحقيقية.
من هذا المدخل، يتهيأ لنا الولوج إلى تجربة القاص أحمد العليو السردية للكشف عن مقدرته في خلق التوازن المطلوب بين الذاكرة كفعل ارتجاعي للماضي وجلب نماذجه الإنسانية وشخوصه، ثم مهارته في إعادة تشكيلها بما يوافق رؤيته للحياة وللإنسان باعتباره اللاعب الرئيسي فيها. وقد يكون لعنوان المجموعة القصصية "معترك الذكريات" دور في تحديد هذا المدخل لأن الذكريات بطبيعتها تتداعى عندما تستثار بمحرض خارجي، لكن عندما تتصارع فنحن أمام تجارب إنسانية تشقى بذاكرتها، وهذا ما يحاول القاص إبرازه في ثلاث سرديات من مجموعته القصصية القصيرة الست عشرة.
القصة الأولى: "انتهاك"
حارس المدرسة الفقير والمعدم والذي تخلى ذات يوم عن أسرته ومدينته ونزح إلى مدينة أخرى هروبا من ظروف معينة، يواجه عند عودته مجددا للعمل فيها استحقاقاً والتزاماً يجده في انتظاره. يصطدم بولده المتشرد صاحب السلوك المشين وعتاب طليقته له. فالذكريات في هذه القصة وإن عبر عنها القاص بسرده لمشاعر الرجل (تحك رؤوس أصابعي قمة رأسي بضراوة، وعيناي تذرفان تلك الذكريات المرة، تذرفان تلك الطعنات التي ما زالت نصالها تبعث حمماً تهيجني..)، فهذه الذكريات ليست سوى الوجع الكامن في أعماق الإنسان الذي لن يتحرر منه سوى بمواجهة بواعثه ومعالجتها وليس الهروب والتخلي.
القصة الثانية: «أغصان الألم»
في هذه القصة تحضر الذكريات على شكل سياط تقريع لتعيد العاشق إلى حقيقة مشاعره تجاه فتاته التي عزف عن الزواج بها خضوعاً للأعراف والتقاليد وتكافؤ النسب. هي لون من العقاب المستمر وأداة مازوخية يستحضرها العاشق كلما طرق قلبه ما يذكره بمحبوبته (الذكريات تهبط عليّ كشلال نار، تحاول أن تعيد المشاعر المنزاحة إلى المشاعر المغدورة، تتساقط دمعاتي حزناً على مشاعري التي خنتها).
القصة الثالثة: «ذاكرة الخيانة»
(ربما قرأتْ رائحتها مكتوبة على جسمي بعطرها الملتحم بأحاسيسي ومشاعري، كانت ليلة تحولت لحظاتها إلى رصاصات مطاطية، صورة صديقي بقسمات وجهه الطيبة تنهشني إلى الآن، ومنذ تلك الليلة ازداد سعاري، ما زلتُ أنهش الفقيرات، وأعود لتتفرع، وتمتد أغصان الشك في أعماقي الهاوية). إذن هي ذاكرة تخشى العقاب المتمثل في احتمال أن تخونه زوجته كما خانها مع زوجة صديقه.
إذن هي ثلاثة أنواع من الذاكرة عمل القاص على توصيفها ومعالجتها سردياً: ذاكرة الالتزام والاستحقاق، وذاكرة العقاب المازوخي، والثالثة ذاكرة الخوف من العقاب.
فهذه الذكريات تأتي غير منفصلة عن ذاكرة القاص نفسه، حيث امتزجت بإرثه الثقافي.. مدينته الأحساء والصور الاجتماعية في ثمانينيات القرن الماضي والقيم والأعراف، وكذلك ما يتفرع عن الذاكرة العامة من تفاصيل التصقت باسمها كالبترول والنخيل وشجرة السدر ورائحة "المشموم" وهموم الطبقة الفقيرة والمسحوقه و"القيصرية".
أما ذاكرته الشخصية وامتزاجها بالمخيلة فقد برزت في نصين هما: ومضة والحب المتشظي، فبالرغم من عدم مقدرة القاص عن نفيهما عن شخصه، إلا أن أسلوبه السردي القصصي وطريقة معالجته لهواجس المبدع القاص في محيطه الأدبي قد شكل لونا من الجرأة في اعتباره للسرد كنوع من البوح الشخصي مثله مثل الشعر وباقي الأشكال التعبيرية.
أخيراً، هذه التجربة المنجزة للقاص أحمد العليو في مجملها تمكننا من الاطلاع على إمكانيات قاص، يتميز بثراء اللغة وخبرة في توصيف النوازع البشرية والكشف عن دافعيتها من خلال المواقف التي عالجتها قصصه، وكذلك بجمال الأسلوب السردي وتدفقه السلس وعنايته بالتفاصيل.