نعومي بارون أستاذة اللغويات في قسم اللغة والدراسات الخارجية في الجامعة الأمريكية في واشنطن نُشِر لها العديد من الكتب والأبحاث التي تناولتْ موضوع التقنية والكتابة واللغة في السياق الاجتماعيِّ، وتطبيقات التواصل الاجتماعيِّ والرسائل النصية على الهواتف النقالة، وعن اكتساب اللغة، وتاريخ اللغة الإنجليزية. صدر كتابها الأخيرُ مِن مطبعة جامعة أكسفورد هذا العام (2015) بعنوان «الكلماتُ على الشاشة: مصيرُ القراءة في العالم الرقميِّ» تناولتْ مِن خلال فصولِه العشرة مجالَ التقنية، وكيف أعادت تشكيل فهمنا ورؤيتنا للقراءة في ظلِّ انتشار القراءة عبر الشاشات الرقمية، وأكدت أنَّ القراءة من الشاشة تتمتع بمزايا كثيرة؛ كسهولة الاستخدام، وتوفير الأموال، وسرعة وصول الكتب إلى القرَّاء في جميع أنحاء العالم، إلا أنها مع ذلك تحمل عيوبًا منها: تشتيت القارئ، وإغراؤه بالقراءة السريعة بدلًا من المتعمقة. بل الأكثر من ذلك، فمع تغيُّر طريقة القراءة، تغيرت تبعًا لها طريقة الكتابة، وبدأ العديدُ من المؤلفين نشْرَ أعمالٍ تتسم بالقِصَر، ولا تتطلب التفكيرَ العميق أو القراءة المتأنية.
فكر بسرعة
هكذا كنا نقول بصوت عالٍ عندما كنا صغارًا ونحن نلقي بالكرة بعيدًا. والآن أصبحنا نقول هذه العبارة ونحن نقرأ. ظلت القراءة والتفكير متلازميْن من الناحية التاريخية؛ فقد تحدَّث إيريك هافلوك [الباحث في الأدب والفن الإغريقي والروماني] منذ سنواتٍ طويلة عن أنَّ التطور الذي حدَث في كتابة الأبجدية اليونانية أعطى قدرةً أعلى في التفكير والتحليل لم تكن موجودة من قبل، ربما نمّق هافلوك أبجدية ألفا، بيتا، ولكن لا أحدَ ممن يقرأ لأرسطو أو أريستوفان يشكُّ أنَّ هؤلاء الكتاب قدَّموا لنا الكثيرَ من التأملاتِ العقلية.
يدور نقاش مستمر اليوم عن المصطلح الباذخ «التفكير النقديّ». هذه العبارة تعني بمعنى آخر «دراسة حُجج الآخرين» أو «تقييم المعلومات». وحيث إنَّ السعيَ لتحقيق مهاراتِ التفكير النقديِّ يتخلل التعليمَ على جميع المستويات، تحرص المدارسُ على إعداد وتربية النشء على تناول المواد بالتفكير الناقد، والنظر الموضوعيِّ بدلًا من الحفظ عن ظهر. ولكن أيّ نوع من المواد؟ إنها في الغالب المواد المكتوبة، ولكن هذه الأيام نحن نعلِّم كيف تُقرأ الكلمات في صفحة الورقة، وعندما تحوَّل شكل الصفحة، تغيرت معها طبيعةُ القراءة. لقد أثارت الكلمة المكتوبة في الأجهزة الرقمية تساؤلاتٍ لدينا نحن قُرَّاء الكتب عن أجهزة الكمبيوتر المحمول، وأجهزة القراءة الإلكترونية، والهواتف المحمولة؛ إننا نقوم بتحميل الكتب في وقت أقل مما يستغرقه نظيرُه الملموس للالتقاط من على الرفِّ، ونتحرك بسرعة، وإجمالًا نوفر المال، ولكن عند القراءة الطويلة للنصِّ على الشاشة الرقمية، هل يمكننا التفكير بشكل ناقد؟ يقول الكثير من المعلمين والطلاب: إنَّ انخفاض التكلفة وتوفر الراحة أسبابٌ كافية لاستبدال المطبوع مع البكسل، ولكن لا يزال النقاش يفتقد المعرفة بمستوى القراءة أو (بعض القراء) في هذه التجربة. تأتي الكتب المطبوعة والشاشات الرقمية مثل كل التقنيات، لكلٍّ منها إمكانياتها الخاصة؛ حيث إنَّ الكتابَ المطبوع سهلٌ للتعليم، ويعطي القراء إحساسًا بالتواصل مع المادة المقروءة، ويحتوى على خصائص جمالية يقدِّرُها الجميع صغارًا وكبارًا. كما إنَّ الشاشات الرقمية أدوات ممتازة للبحث السريع أو تكبير النص على سبيل المثال.
إنَّ طُرقَنا في استخدام التقنية تؤدي بنا إلى تطوير عاداتٍ عقلية معينة لدينا، فمع الورقة المطبوعة قد نستخدم أسلوب المسح والتصفح، وحالتنا الافتراضية هي القراءة المستمرة حيث نركز على القراءة، على الرغم مِن أننا في بعض الأحيان نسرح بأفكارنا بعيدًا. بينما تولِّد التقنياتُ الرقمية مجموعةً مختلفة من العاداتِ والممارساتِ، حالتها الافتراضية هي ما أسميه «القراءة خلسةً». فكّر فقط في مقدار الوقت الذي تقضيه وأنت تبحث عن موضوع في «جوجل». دقيقة؟ عشر ثوان؟ وعن مدى احتمال تشتُّت التركيز على مهام متعددة أثناء القراءة على الشاشة.
تؤكد الدراساتُ التي قمتُ بها على طلاب الجامعة في عدة بلدان ما أقوله، سوف تجد -كما وجد كثيرٌ مِن الطلاب- عند القراءة سواء لهدف التعلم أو العمل أو المتعة أنَّه من السهل التركيز عند قراءة في الصفحة المطبوعة. وأنه عند القراءة من الشاشة يتشتَّت التركيز على مهام متعددة أكثر بحوالي ثلاثة أضعاف ما عليه الحال عندما القراءة من الورق.
ما الذي يقودنا إلى التفكير السريع والتفكير النقديِّ؟ ميَّز دانيال كانيمان [عالم النفس الأمريكي] بين نظاميْن من النشاط العقليِّ، النظام الأولُ: سريعٌ وحدسيٌّ ولا واعٍ إلى حدٍّ كبير، كما في الأحكام الخاطفة. والنظام الثاني: بطيءٌ ومنطقيٌّ وتحليليٌّ وواعٍ. في حين يعتقد كانيمان أنه من الصعوبة بمكان التمييز بين النظام السريع والبطيء ونحن نقرأ من الشاشة أو من خلال الإنترنت، إلا أنه من الواضح أنَّ التحرك السريع، والحدسيَّ يميز معظمَ نشاطنا العقليِّ عندما نلتصق بالشاشات، وأضيف إنَّ القراءة بطبيعتها متأنية، والتأني يحدُث أيضًا بدرجة أكبر عند القراءة من الورق.
هناك تمييز بين ما يسمى القراءة العميقة (هذه العملية تستغرق وقتًا طويلًا وتتضمن مهاراتِ التفكير والتأمل)، وفرْط القراءة (وهو مصطلح صيغ أواخر التسعينيات) من كتاب «كيف نفكر؟» حيث عرَّفَت كاثرين هيلز فرطَ القراءة بأنه «استجابة لبيئة إعلامية مكثفة؛ تهدف للحفاظ على الاهتماماتِ من خلال التحديد السريع للمعلومات ذات الصلة، بحيث يُجتزَأ ويُقرأ النصُّ القصير المعين فقط»، فليس من المستغرب أنَّ فرْط القراءة هي ما يمارسه الكثيرُ منَّا أكثر من التفكير. القراءة العميقة تستغرق وقتًا طويلًا وصبرًا وجهدًا. في التمييز بين تفكير النظام الأول السريع والنظام الثاني البطيء يذكِّرنا كانيمان أنه حتى عندما يكون النظام الثاني هو المطلوب، فإننا -نحن البشر- نميل إلى الكسل والأحكام الحدسية السريعة المميزة للنظام الأول. عندما نقرأ على شبكة الإنترنت تميل الكفة في غير صالح النظام الثاني الذي يشمل: التفكير، والقراءة العميقة، والتفكير النقديَّ.
من المؤكَّد أنه مع التدريب الصارم يمكن اكتسابُ مهارة القراءة، والتفكير، والتحليل بغضِّ النظر عن وسيلة القراءة. وأكد أكثر من 90٪ من طلاب الجامعات الذين شملهم الاستطلاع أن التركيز والشاشات الرقمية لا يلتقيان عمومًا. هنا نحن بحاجة إلى أنْ نتساءل ما إذا كانت هذه الأجهزة الرقمية التي في أيدينا مُساعِدة أو مُعيقة؟!
نعومي بارون