يواري الأردن حيرة شديدة، أصابت أروقة الرسميين، حيال الآلية المناسبة للتعامل مع تطورات المشهد الميداني في سوريا، التي بات فيها نظام بشار الأسد تحت "الحامية الروسية" وحلفائها الإقليميين، فيما تتخذ الولايات المتحدة الأمريكية موقفاً انسحابياً، من شأنه إسالة المزيد من دماء السوريين. الخشية الأردنية من تنامي نفوذ جبهة النصرة وأخواتها، والإخفاق في كبح جماح تنظيم "داعش"، تزامناً مع "فشل ذريع" منيت به مشاريع تأهيل المعارضة السورية المعتدلة، دفعت بعمان إلى حافة مفتوحة.
السياسيون الأردنيون يواجهون الآن سؤالاً مهماً، مفاده أيهما أفضل للأردن "جبهة النصرة وأخواتها" أم "الحرس الثوري الإيراني" و"حزب الله" الصفويان؟، من دون أن يجرؤ أحد على الإجابة، مكتفين بتأكيد أن "الحكم يقف على أدق التفاصيل خلف الكواليس". بالعودة إلى سنوات مضت، حذر العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني من هلال شيعي، قد يطوّق بلاد الشام، حينها لم تكن الثورة السورية قد اندلعت بعد، فيما تجددت هذه المخاوف مع العمليات القتالية التي تخوضها إيران وحلفاؤها في سوريا، الأمر الذي يفسح لها وجوداً عسكرياً شبه نظامي على تخوم الأردن الشمالية. بيد أن المخاوف الأردنية، التي يراها العديد من المراقبين "غير مبررة"، من تنامي القوى الجهادية والمتشددة على الحدود الشمالية، وإخفاق برنامج انخرطت فيه المملكة بالتعاون مع الولايات المتحدة لتأهيل "معارضة سوريا معتدلة"، يدفع بعمان للقبول ببديل واحد، لا أكثر، يتمثل في "فيالق الصفويين"، فهل هذا ما أرادته عمّان؟. ينفي مصدر أردني رفيع، في حديث إلى "اليوم"، صوابية ذلك، ويقول: "بالتأكيد عمان لا تفضل الحرس الثوري الإيراني وحزب الله، ولا تطمح إلى وجودهما على تخوم المملكة، وهذا ما حذر منه الملك عبد الله الثاني في وقت سابق". ويضيف: "أيضاً عمان تخشى الجماعات المسلحة المتشددة، كجبهة النصرة وداعش وغيرها، التي لها حواضن اجتماعية أردنية مناصرة في العديد من المواقع، ما يحيل ارتدادها إلى الأردن، سواء بعد انتصارها أو هزيمتها في مواجهة الأسد، ضرب من الانتحار الأردني".
"إذاً، ما الحل؟"، يتساءل المصدر، ويجيب: "سعت عمان بالتعاون مع الولايات المتحدة إلى تأهيل صنف ثالث من المعارضة السورية، وصف بالمعتدل، بيد أن الممارسة الميدانية أثبتت فشل المشروع، ما دفع إلى وقفه تماماً، خاصة بعدما تبين أن غالبية العناصر، التي جرى تدريبها، عادت إلى سوريا واستلقت في حضن جبهة النصرة وأخواتها التابعة لتنظيم القاعدة". ويشير المصدر إلى "ترقب السياسيين لما قد يستجد على الحدود الشمالية، وتحديداً درعا، التي يتوقع أن تشهد معارك كبرى في المرحلة المقبلة ضمن خطة لاستعادة نظام الأسد وحلفائه السيطرة عليها". لا أحد يعرف في الأردن مآلات التدخل الروسي في سوريا، وعما ستسفر عنه أية عمليات عسكرية سيخوضها حلفاء الأسد ضد المعارضة المسلحة، وأيضاً لا يستطيع أحد التكهن بتأثير المواجهة على طبيعة السلطة القائمة على الأرض، وإلى أية وجهة سينتقل المسلحون، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء الأردني عبد الله النسور بشكل صريح. النسور أعرب عن مخاوفه من نتائج أي عملية عسكرية في الجنوب السوري، فهذا سيدفع باتجاه إما "تكريس سيطرة المتشددين على تخوم الأردن"، أو "تقهقر المتشددين وبحثهم عن ملاذات في مناطق آمنة"، بحسبه. الرسميون الأردنيون توقفوا عند الخيارين اللذين تحدث بشأنهما النسور، لكنهم لم يلتفتوا إلى خيار ثالث، ربما يكون ملاذ المعارضة المسلحة في سوريا، التي لا زالت علاقاتها البينية حتى الآن يشوبها الكثير. في الأسابيع الأخيرة، وجدت المعارضة السورية المسلحة نفسها بلا ظهير في معركتها الشرسة مع الأسد وحلفائه، فيما يشكل التدخل الروسي ضغطاً كبيراً عليها، وبالتزامن مع هذا أوقفت أطراف داعمة لها غرفة العمليات المشتركة في عمّان وانسحبت من المشهد تحت ذرائع متعددة، ما يجعل هذه المعارضة أمام خيار وحيد، تحدث عنه زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في تسجيل بُث أخيراً. الظواهري، رغم تمسكه بالخلاف مع تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، دعا إلى وحدة بين المقاتلين في مواجهة التحالف الدولي، وهي الدعوة التي رآها مراقبون مقدمة لصيغة من "تعاون الضرورة"، الكافي لـ "استمرار الزخم الميداني للجماعات الجهادية أو المتشددة"، وهو ما لم يؤخذ بالحسبان أردنياً وإقليمياً.
وحدة جبهة المقاتلين الجهاديين والمتشددين، وربما المعتدلين أيضاً، قد تكون حتمية إذا ما قررت روسيا التدخل ميدانياً لصالح بشار الأسد، حيث سيضطر المقاتلون إلى طي خلافاتهم، والعودة لغرفة العمليات المشتركة، ودون ذلك سيفقد هؤلاء ما يربو عن 4 سنوات من قتال نظام الأسد، الذي أمعن القتل في كل سوريا. بالتوازي مع تنامي هذا السيناريو، تشير أوساط حكومية أردنية إلى وجود "تفاهمات" خلف الكواليس بشأن المشهد في سوريا، تتضمن إطلاق نظام الأسد وحلفائه عملية عسكرية واسعة لاسترداد بعض المواقع الإستراتيجية من أيدي المقاتلين.
غير أن الأوساط الحكومية لم تتلق أية تطمينات حيال "الجهة المتوقع أن تسيطر على الحدود مع الأردن"، ما يفتح الباب واسعا أمام تكهنات من قبيل "سيطرة الصفويين على الحدود السورية– الأردنية، وارتداد المسلحين المتشددين صوب الداخل الأردني". يقول الكاتب والمحلل السياسي رجا طلب: إن "الأردن لا يرى له مصلحة في أن تبقى سوريا ساحة صراع مفتوحة بين الإرهاب، الممثل بداعش وغيرها من التنظيمات التكفيرية، والإرهاب المقابل الممثل بإيران والميليشيات التابعة لها كحزب الله أو الميليشيات الشيعية العراقية". ويضيف: "نحن في الأردن ليست لنا مصلحة بأن تسقط الدولة السورية في يد التنظيمات الإرهابية، ولا أن تتحول إلى دولة تابعة لإيران، على غرار النموذج العراقي، وبالتالي فإن زيادة النفوذ الروسي في سوريا، الذي سيكون حتما على حساب هذين الطرفين، يشكل في ظل ضيق الخيارات المتاحة لحل الأزمة السورية أفضل السيئ". ويلفت طلب إلى ما سماه "قنوات التفاهم"، ويقول: "قنوات التفاهم مع (الجار الروسي في سوريا) متاحة ومتوافرة، وعلى أعلى المستويات وهو أمر يجعلنا منحازين أكثر من أي وقت لحل مركب وتوافقي، يراعي مصالحنا ومصالح الجوار الجغرافي لسوريا، ويجلب الاستقرار النسبي للإقليم". الحكم الأردني ظل يطالب بـ "تسوية سياسية" للملف السوري، تنظم عملية انتقال تدريجي للسلطة في سوريا دون حدوث فراغ سلطوي تندفع الجماعات المتشددة إلى تعبئته، إلا أن "التسوية المرتقبة" لا تضمن عدم تدفق "فيالق الصفويين" نحو الجنوب السوري، ما يعني بشكل واضح استكمال "الهلال الشيعي"، وهو الأخطر على الأردن والمنطقة.