يقول باري لورد في كتابه (الفن والطاقة: أسلوب التغير الثقافيِّ 2014) : إنَّ الإبداع البشريَّ مرتبط ارتباطًا عميقًا بالموارد الطبيعية المتاحة للبشر على الأرض، وإنَّ الوصول إلى مصادر الطاقة مثل الفحم والنفط والغاز، أو الطاقة المتجددة اليوم، يغيِّر طريقة الناس في التعبير الفنيِّ، ويعيد تشكيل القيم الثقافية جذريًا.
ويأتي استنباطه بعد دراسة للفن والفنانين والمتاحف عبر عصور تاريخية مختلفة، ومناطق متعددة من العالم.
ونقدم هنا مقتطفات من إحدى مراجعات الكتاب، جاءت بعنوان: "ما العوامل التي تؤثر على التغير الثقافيِّ؟ ولماذا تتغير الثقافة في الأساس؟"
باري لورد، هو المؤسس المشارك لمركز لورد للموارد الثقافية، شارك في العديد من المؤسسات الثقافية، والمتاحف المرموقة في العالم.
أدرك لورد - بعد ثلاثة عقود، وعدة آلاف من المشاريع المنجزة في أكثر من خمسين بلدًا حول العالم - أنه في الواقع متعلق بالأعمال التي تُعنى بالتغيير الثقافيِّ. ألَّف لورد وزوجته، في (2010) كتاب (الفنانون، والمناصرون، والجمهور: أسلوب التغير الثقافيِّ) حيث قال عنه: "من فصول هذا الكتاب فصلٌ يُسمى "الفن والبيئة"، ومن هذا الموضوع بدأتُ البحث عن مصادر الطاقة وعلاقتها بالبيئة، وما يتعلق بها من آثار ثقافية، ومن هذا الفصل وجدتُني أتوقف كثيرًا عند هذه الفرضية.
أدركتُ في الواقع أننا متأثرون كثيرًا بالمشاريع التي تأثَّرت بتبدُّل الطاقة التي مرَّت من خلالها المجتمعات، هذه العلاقة لم أكن أعرفها - تحوُّل الطاقة والتغير الثقافي - وهكذا تصوَّرتُ نظرية عامة عن هذا الأمر، وهي أنَّ تبدُّل الطاقة محركٌ أساسيٌ للتغيير الثقافيِّ".
يتحدث لورد في كتابه الجديد (الفن والطاقة: أسلوب التغير الثقافيِّ) عن مصادر الطاقة، والقيم الثقافية والفنية.
ويناقش كيف غيَّرت مصادر الطاقة المتنوعة، مثل النار، أو الطاقة البدنية، والرقِّ، والفحم، والرياح، وغيرها قيم المجتمعات السائدة، ثم يصف كيف تغيَّر الفنُّ وحافَظ على هذه القيم الجديدة.
يقول: "إنَّ مصدر الطاقة يتطلب منَّا القبول - وليس بالضرورة الموافقة - ببعض القيم الثقافية المصاحبة له، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك من خلالها الحصول عليه. والمثير للاهتمام حقًّا، أنه كلما زادت سيطرة الطاقة - أيْ أصبحنا نعتمد عليها - فإنَّ قيمتها الثقافية تصبح عامة وشاملة، لا أحد يناقشها، بل تُقبَل دون وعي في كلِّ مكان".
قدَّم لورد عصر النهضة كمثال لطرحِه، وتساءل: لماذا ظهرَ في تلك الحقبة الكثير مِن لوحات الأشخاص الزيتية؟ يقول: "عندما تدرس التاريخ، سيظهر لك فجأة كلُّ هؤلاء الأشخاص الذين عملوا قباطِين سفُن! خُذ مثلًا: السير فرانسيس دريك، ووِالتر رالي، وهنري هِدسون، وجون كابوت، وغيرهم كثير، وستتعرف على هؤلاء الرجال: فِرديناند ماجلان، وكريستوفر كولومبوس، وغيرهم... كلُّ هؤلاء الرجال كانوا قباطِين سفن، اشتُهِروا فجأة بذواتهم".
وتابع بالقول: "ثم في القرن السابع عشر، انظر لبلد مثل هولندا حيث يعيش، رمبرانت وفيرمير، وعاش شكسبير وموليير في هذه الفترة، وهنا ظهرت الأوبرا وأُلِّفَت رواية سرفانتس "دون كيشوت".
كلُّ هذا حدَث في القرن السابع عشر، ذلك القرن الذي تلا عصر النهضة، وجميع هذه الأمثلة تدور حول المذهبٌ الفردي (Individualism) الذي ظهر في ذلك الزمن، ومن هنا جاء هذا الاعتزاز المفاجئ بالأشخاص، لماذا؟ لأنه ببساطة لم يكن موجودًا في العصور الوسطى السابقة".
ويرى لورد أنَّ المذهبٌ الفردي ارتبطَ بثقافة الاستثمار، يقول: "هذا الأمر يبدو متناقضًا، ولكن له علاقة وجيهة بالواقع".
بدأ الاستثمار في إيطاليا، قبل عصر النهضة، "كان يقوم الاستثمار في ذلك الوقت بواسطة السفن التي تجوب البحر الأبيض المتوسط وحوله فقط، لكن أولئك الذين يملكون سفنًا أكبر بحبال أشرعة وصوارٍ أفضل، هم الذين تمكنوا من حمْل الشحنات الثقيلة.
أبحَر هؤلاء من البندقية وفلورنسا وبيزا وجنوة، تلك المدن التي بدأ الناس فيها فعلًا شراء الأسهم المالية، أو قراريط الذهب، وبحلول القرن السابع عشر، أصبحت السفن أكبر لتتناسب مع الرحلات الأطول، وأصبح تجار التوابل يبحرون أبعد من إسطنبول، ويعودون إلى البندقية.
تدور الرحلات الآن حول العالم، والإبحار في تجارة التوابل والرقيق أصبح استثمارًا مربحًا لدرجة كبيرة، لكنه لم يخلُ من المخاطرة الكبيرة؛ وهذا هو السبب في وضْع صورة لعاصفة بحرية على غلاف كتابي.
في القرن السابع عشر كان هذا الموضوع يحظى بشعبية كبيرة، وكذلك المذهبٌ الفردي، لماذا؟ وما هذه اللوحة التي قدَّمتُها كلوحة فنية عن المخاطر؟ إنها ببساطة لوحة الخطر، تنبهك لما يمكن أنْ تتعرض له في رحلتك.
إنَّ قرار المستثمر هو قرار فرديٌّ؛ لذا فهو ينبُع من وعي الفرد، فقراره هو مصيره. وهكذا في ذات الوقت الذي ولدت فيه ثقافة الاستثمار، ولدت الثقافة الفردية.
إنهما شيئان متعاصران تمامًا؛ لذلك ركَّزَت أعمال كلِّ هؤلاء الفنانين والمسرحيين الثقافية العظيمة في عصر النهضة، ثم في القرن السابع عشر، على الأفراد". إنَّ ثقافة المجتمعات تتغير عبر مرورها بمراحل انتقالية من ظهور مصدر طاقة إلى آخر؛ فعندما استُخرج الفحم، جاءت معه قيمُ التعليم للجميع، والانضباط الذاتيِّ، وأخلاقيات العمل القوية، وأصبح فنُّ الزجاج ممكنًا. لقد أكَّد ظهور الفحم وسكك الحديد البخارية، الهويات الجماعية والوعي الطبقيّ بشكل أقوى، وتطورت المكتبات وسوق الكتب. في الستينيات من القرن العشرين، حلَّ النفط والغاز محلَّ الفحم كمصدر وحيد للطاقة، وجلبت الكهرباء موجاتٍ من التغيرات الثقافية، واحدة من هذا: التغيرات الملحوظة في ثقافة التحول هي فكرة أنَّ الفنَّ يمكن أنْ يقولبَ المجتمع؛ فظهرت حركات فنية مثل جاكسون بولاك [أحد رواد حركة التعبيرية التجريدية] وتغيَّر أيضًا مفهوم الاستهلاك كما ظهرت لدى آندي وراهول [فنان ومصمم إعلانات تجارية].