زارني قبل زمن شيخان جليلان فتبادلنا أطراف الحديث؛ فقال أحدهما: قبل أشهر كنت أستعد للنوم، فرنّ هاتفي وإذْ به رجل أعمال من مدينتي يتكلم بصوت مرهق فيه رنة حزن طالباً مني القدوم حالاً، وأن آتي بأحد طلبة العلم، كدت أعتذر لولا إلحاحه، قمت وهاتفت أحد الإخوة ووافق وانطلقنا.
مر في مخيلتي ونحن بالطريق إليه أنه يمر بمشكلة كبرى، وصلنا بيته قرابة العاشرة والنصف، استقبلنا واستفتح أمره؛ بأنه يعاني من مرض وسيعملون له عملية وللعملية تبعات، لكنه شكا تفرق أموره وفوضى أوراقه، وعدم كتابة وصيته، فضلاً عن ثلثه الخ، يقول الشيخ: وبحسب خبرتي واطلاع طالب العلم، طلبنا أوراقه، وحصرناها ثم كتبنا له مسودة وصية، ومقترحاً لوقف يرعاه بقية حياته، فاستبشر وارتاح، وقال: إذن أفكر واستخير عدة أيام ثم أهاتفكم لنكتبها ونوثقها.
خرجنا من عنده، وانتظرت اتصاله أسبوعاً ثم اسبوعين ثم اتصلت فرد علي معتذرا بمراجعاته، لكن صوته تحسن كثيرا، انتظرته شهرا فلم يتصل، وسمعت أنه عمل العملية ونجحت، لقيته مرة فسألته عن وصيته ووقفه، قال: ربما لاحقاً وتشاغل بسفراته وصفقاته؛ يقول الشيخ: سبحان الله لما ضعف أحس بحاجته لعمل الإحسان، ولما تعافى غفل القلب، وزادت آماله وتعددت أعماله، مع أنه تجاوز السبعين ويعاني من أمراض عدة! وما علم المسكين أنه يجمع لغيره، وقد تحدث الفرقة بين ورثته لفوضى أموره.
قارنت ما رواه الشيخ عن هذا وما يفعله السلف والخلف من جميل الأوقاف المنجزة في الحياة؛ فقد انتشرت ثقافة توقيف الأموال ورعايتها في معظم حواضر الإسلام في الحرمين والقدس والأندلس والزيتونة والقيروان وبغداد ودمشق والقاهرة وغيرها، حتى أصبحت معظم الدول الإسلامية تخصص وزارة تعنى بالأوقاف وتنميتها، فهي الذراع الكبير المتمم لعمل الدولة في خدمة الإنسان ودينه ومجتمعه وبيئته، وهذا الأمر انطلق من عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فعن ابن عمر قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول، ولا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب.
وقد استمرت الأوقاف مصدر رزق وعز للعلماء والقضاة، والمساجد والمشافي، والتزويج، والسقاية، والجوائح والجهاد والطيور والحيوانات والبيئة إلى عصرنا الحاضر، ومن أمثلة الموقفين المعاصرين صالح الراجحي رحمه الله، وأخواه سليمان ومحمد رحمه الله، فقد أوقفوا مليارات الريالات رعوها في حياتهم حتى تضاعفت؛ ويشابه عملهم ما قام به الأخوان سعد وعبدالعزيز الموسى رحمهما الله، وكذلك محمد وعبدالله السبيعي، ومثلهم صلاح عطية من مصر رحمه الله، الذي أوقف مئات الملايين من الجنيهات فأسس جامعة وعدة كليات وعشرات المعاهد وثلاثة مصانع كبرى.
ومن مميزات الوقف أن صاحبه يقدمه أمامه وهو حي؛ يرعاه وينميه فيتكاثر بين عينيه ويربو مع مرور الأيام فهذا الحاج رحيم التركستاني وقف غرفتين بمكة عام ١٣٠٧، ثم في عام ١٣٨٩هـ بلغ إيجارها٣٠٠ ألف، وفي عام ١٤١٦هـ أزيلت ثم قُيِّمت، فاشترى الوقف ٣ أبراج، وفي عام ١٤٣٣ أزيلت الأبراج وقيِّمت فبلغت مئات الملايين فاشتري بها ١١ برجا قيمة أحدها الآن بـ٤٠٠ مليون!
ولا يذهب وَهَلُ الإنسان أن الوقف لا يكون إلا مالاً أو للأغنياء فقط! فمجالات الوقف متعددة؛ فهناك المال، والعلم، والجهد، والفكر، والبناء، والسقاية، والشجر، قليلا كان أو كثيراً، وأحد الشباب أعرفه شخصياً وقف فكرة نوعية كانت قيمتها قبل ٧ سنوات ٣٠٠ ألف والآن تقدر بـ ٣ ملايين ريال، وأصبح لهذا الوقف مؤسسة رسمية خاصة به. ووثقه، ووضع مجلس نظارة عدولا للإشراف عليه إذا احتاج لذلك.
حاول أن تبني حياة تمتد إلى يوم القيامة وإن غاب الجسد، فبعض الناس وُفِّقوا لحياة ممتدة ترويها صدقة جارية! وهذا الذي يبقى: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».