DAMMAM
الخميس
34°C
weather-icon
الجمعة
icon-weather
34°C
السبت
icon-weather
37°C
الأحد
icon-weather
33°C
الاثنين
icon-weather
34°C
الثلاثاء
icon-weather
36°C

اختطاف الجماهير

اختطاف الجماهير

اختطاف الجماهير
الحديث عن الجماهير يعني الإشارة إلى مسار اجتماعي تتخلله اشتباكات دينية وسياسية تسير مجتمعة نحو تشكيل سلطة، وهذا هو ما يجعل التيارات الدينية المنتشرة بكثافة في الفضاء الاجتماعي والفاعلة فيه بقوة مهجوسة بتسييس الجماهير، ليس بمعنى تأهيلها لأداء دور حقيقي في التنمية، على اعتبار أن السياسة هي فن إدارة المجتمعات، إنما من منطلق الأدلجة المحمولة على تكريس الرؤية التقليدية للوجود، أي فصل الفرد عن كل ما هو علمي وحداثي بآليات مختلفة وحيل متنوعة تنهض في مجملها على فكرة النقاء وتأصيل نهجها الطهوري، الخالي من الشوائب. هكذا تُستغل الجماهير عندما تتحول إلى أدوات لصناعة تاريخ فئة أو مجموعة من الرموز الدينية بحيث لا يطالها الشك، ولا تخضع آراؤها ومواقفها للفحص أو المساءلة. ولهذا السبب بالتحديد يغلب على مجتمعنا سمة الجماهيرية، المتأتية من ثقافة القطيع وفق برمجة طويلة المدى للتيارات الدينية التي تجيد تأجيج العواطف، وايجاد حالة من التأييد العارم دون قدرة على رسم خط سياسي واضح المعالم والأهداف. أو هكذا يُراد للفرد أن يكون ضمن جماعة محقونة بالشعارات السياسية الفضفاضة لا صلة لها بالواقع العصري المعيش، فهي مجرد أيديولوجيا مضادة لتشكيل سلطة تعقيمية للجماهير. ولتعميق هذا الهدف تعمل تلك القوى على تكريس الطقوس بشكل تكراري لتبقي الفرد بمعزل عن الحياة الواقعية، ليتحول في نهاية المطاف إلى مجرد قوة تعبوية لتعزيز مكانة تلك الفئة العارفة الواعية التي اختطفت حق التفكير عن الآخرين، وخولت نفسها كمتحدث باسم الجميع. وهكذا تتعاظم سلطتهم في ظل تراخي النبرة الناقدة من قبل الجماهير، وحينها يتحول الجسم الاجتماعي إلى كتلة معطوبة وغير قادرة على الحركة إلا بموجب وصايا وتوجيهات مجموعة من الرموز الدينية المأخوذة بفكرة السلطة. لا وجود ولا قوة لأي رجل دين خارج القاعدة الجماهيرية، والتيارات الدينية تعي هذا الأمر تماما، لأن الرهبنة لا تستلزم حضور المريدين والأتباع. أما التيار الديني السياسي فيحتاج على الدوام إلى قوة جماهيرية موالية ومطيعة ومستعدة للتفاني في خدمة المسار الاجتماعي الذي يحدد أركانه وإيقاع حركته، وهو ما يعني أن المهاترات التي تفتعلها التيارات الدينية بين آونة وأخرى إنما يراد بها استقطاب المزيد من المؤيدين، وشد عصب الجماعة، وتأكيد هيبة الزعامة، أو على الأقل توطين رمزية أقطاب التيار في أذهان الجماهير، أي استعراض القوة وتعميق وجودها داخل الحالة الاجتماعية. هذا هو ما يعطي للفرد المأسور داخل قفص التيارات الدينية وهم الإقامة في فردوس متخيل بصحبة جماعة مثالية في توجهاتها وممارساتها، وحتى في تماديها في التعدي على حرية الآخرين، لأن الجماهير في هذه الحالة تبدو منذورة للدفاع عن أيديولوجية نموذجية من وجهة نظرهم. وتمتلك من الاستعداد ما يكفي لتصعيد الرمز الديني حد تأليهه، لأنها تواجه جماعة أخرى ضالة أو تنازعها على نصيبها من الجماهير، وهذا هو أصل التثقيف الديني ودوافعه الخفية والمعلنة، وهذا هو أيضا ما يفسر تراجع جماهير التيارات الدينية إلى خطوط دفاعها الأخيرة بمجرد الارتطام بما هو عصري أو حداثي، حيث تبدو الطهورية المختزنة في النصوص طوق نجاة الخائفين من الحضور داخل اللحظة المعيشة. لا تحتمل الجماهير المتدينة أي شكل من أشكال الفراغ الأيديولوجي، كما أنها لا تتصور وجودها دون وجود قوى مضادة. والمفارقة أن هذه الفئة من الجماهير كلما زاد فقرها الأخلاقي وانتفت علاقتها بروح العصر، ازدادت تمسكا برموز التيارات الدينية وتفانت في تأكيد سلطتها، لأن التثقيف الديني ببعده السياسي لم يسلبها القدرة على التفكير فقط، بل زرع فيها الخوف واليأس والإرجاء والارتباك إزاء الوجود، من خلال الخطب الدينية والتوجيهات المكثفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واحتلال الفضاء الحياتي كله، وبذلك نجحت التيارات الدينية في تحويل حالة التدين إلى قوة ناعمة لتأطير المسار الاجتماعي. إن إرجاع الجماهير إلى طورها البدائي هو الفن الذي تتقنه التيارات الدينية باختلاف ميولها وانتماءاتها، من خلال اللعب بشكل مباشر وعميق في المكوّن الثقافي، حيث يتم تدوير القيم النصية والتاريخية والاجتماعية التي تكفل السيطرة على الجماهير وتحويلها إلى وقود أيديولوجي، لتهميش القوى التي تمتلك رؤية علمية وواقعية للحياة، وتوسيع هامش القاعدة الجماهيرية المحبطة المهزومة المستعدة للانقضاض على الآخر والفرار الطوعي من كل ما هو دنيوي لصالح فئة قليلة تستمتع بملذات الحياة وجبروت السلطة.