يشهد العالم العربي حاليا تغييرات عميقة، على الصعيدين السياسي والفكري، يصعب توقع منذ الآن ما تحمله من آثار ونتائج متوقعة أو محتملة بالنسبة لمستقبل الدول والشعوب التي تنتمي إليه.
فعلى الصعيد السياسي: لم يعد نموذج الدولة «الوطنية» الذي قام على أنقاض الامبراطورية العثمانية قادرا على الصمود وبات معرضا الآن للتفكك والانهيار.
فقد تفاقمت الصراعات الدينية والطائفية والعرقية في العديد من الدول العربية، خاصة عقب اندلاع «ثورات الربيع العربي، وسرعان ما تحولت إلى حروب أهلية لاتزال مشتعلة حتى الآن، ويبدو أنها ستظل كذلك لفترات طويلة مقبلة، لذا تعتقد قطاعات عريضة من النخب الفكرية والسياسية العربية أن الخريطة السياسية التي رسمت للمنطقة إبان الحرب العالمية الأولى، وجسدتها اتفاقية سايكس-بيكو وغيرها من الاتفاقيات التي وزعت أملاك الامبراطورية العثمانية المنهارة، لم تعد قابلة للدوام، ومن ثم فإن ما يجري الآن في العالم العربي ما هو إلا عملية لإنضاج الشروط الموضوعية اللازمة لإعادة رسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة، يرجح أنها ستتم على أسس ومعايير طائفية ومذهبية وعرقية، ولأن التداخل الديني والطائفي والعرقي بين شعوب ودول هذه المنطقة يبدو معقدا إلى الدرجة التي تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل تماما، اعتمادالمعايير الطائفية والاثنية أساسا صالحا لترسيم الخرائط والحدود الجديدة لدول قابلة للاستقرار، يعتقد على نطاق واسع أن أي محاولة لفرض خريطة سياسية من هذا النوع ستتطلب القيام بعمليات ترحيل قسري لعشرات الملايين من البشر وبتبادل على نطاق واسع للأراضي، وهو ما يبدو متعذرا إلى درجة الاستحالة.
فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن المشاريع السياسية التي تستهدف إقامة دولة قومية عربية موحدة أو استعادة الخلافة الإسلامية تحت مظلة عربية تبدو في ظل الأوضاع السائدة حاليا مجرد أضغاث أحلام، لأدركنا عمق المأزق السياسي الذي تمر به الشعوب العربية.
وعلى الصعيد الفكري: تبدو الأطروحات النظرية التقليدية عاجزة عن إيجاد صيغة فكرية وسياسية تسمح لمواطني وشعوب هذه المنطقة بالعيش معا داخل أطر ونظم اجتماعية قادرة على تحقيق أمن واستقرار مواطنيها وتمكينهم من التقدم والازدهار والمشاركة بفعالية في صنع الحضارة الإنسانية.
فالتيارات الليبرالية واليسارية تبدو شبه غائبة أو محدودة التأثير على أرض الواقع، والتيار القومي يبدو في حالة تراجع وانكسار، ويسيطر عليه إحساس عام بالهزيمة، وتيار «الإسلام السياسي» يبدو رغم حالة المد التي يشهدها في المرحلة الراهنة مشرذما ومنقسما على نفسه، ويغلب عليه التطرف والجمود الفكري والعقائدي.
ومن الطبيعي، في سياق كهذا أن تتعلق الآمال والأحلام بأي أطروحة إصلاحية قادرة على أن تلقي حجرا في مياه العرب الفكرية الآسنة يستطيع تحريكها في الاتجاه الذي قد يؤدي إلى وضع حد للارتباك الحادث في المشهد العربي حاليا.
وهذا هو بالضبط ما أقدمت عليه حركة النهضة التونسية حين قررت في مؤتمرها العاشر، الذي انعقد منذ أسابيع قليلة في مدينة الحمامات بالقرب من العاصمة التونسية، الفصل بين النشاط الدعوي والنشاط السياسي، والتحول إلى حزب سياسي مدني حديث.
ولأنها المرة الأولى التي تقدم فيها حركة إسلامية منبثقة عن جماعة الإخوان على خطوة بهذه الجسارة، فمن المتوقع أن يكون لها ما بعدها وأن تؤدي - ضمن نتائج أخرى كثيرة وبعيدة المدى - إلى إعادة فتح باب الجدل الفكري حول ماهية العلاقة بين الإسلام والعلمانية، خصوصا حول مدى قابلية الأحزاب «الإسلامية» للسير على نفس النهج الذي سلكته الأحزب المسيحية الديمقراطية في أوروبا الغربية.
«العلمانية» هي المقابل العربي لمصطلح secularism باللغة الانجليزية ولمصطلح laicite باللغة الفرنسية، المعبر عن الاتجاه الفكري المطالب بالفصل بين الدين والدولة أو بين السلطتين الزمنية والروحية في التجربة الأوروبية، وهو مصطلح صكه الكاتب البريطاني جورج هاليواك Halyoake.
وظهر لأول مرة في مقال له نشر عام 1851 للتأكيد على أهمية بناء نظام اجتماعي متحرر من أسر العقائد الدينية.
ويلاحظ هنا أن الترجمة العربية لهذا المصطلح ليست محل إجماع ولا تعبر بدقة عن الدلالة الحقيقية لمعنى المصطلح في لغته الأصلية، بدليل أن كلمة «العلمانية» تكتب وتنطق بطريقتين، كلتاهما صحيحة ولها وجاهتها.
فهي أحيانا تكتب وتنطق بفتح العين، نسبة إلى العالم ورغبة في إبراز البعد «الدنيوي» في مقابل البعد «الروحي» وأحيانا أخرى تكتب وتنطق بكسر العين، نسبة إلى العلم ورغبة في إبراز البعد العقلي المعتمد على العلم والتجربة، فيما يتعلق بأمور الدنيا، مقابل البعد الغيبي أو الميتافيزيقي، فيما يتعلق بأمور الآخرة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن ظهور المصطلح الغربي المعبر عن الاتجاه المطالب بالفصل بين السلطتين الزمنية والروحية، لم يأت في سياق حملة معادية للدين في الغرب وإنما في سياق البحث عن نظام سياسي واجتماعي قابل للاستقرار والازدهار.
ولأن الشعوب الأوروبية عانت استبداد الكنيسة طوال قرون، وخاضت صراعات وحروبا عديدة باسم الدين، ظل بعضها مشتعلا لعشرات السنين.
فقد كان من الطبيعي أن تتجه جهود الفلاسفة والمفكرين نحو البحث عن صيغة فكرية تصلح أساسا لإقامة نظام سياسي واجتماعي يضمن تعايش كافة الأفراد الراغبين في الانضواء تحت لوائه، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية والمذهبية أو أصولهم العرقية والإثنية. وفي سياق هذه الجهود بدا أن نقطة الانطلاق الرئيسة على هذا الصعيد تتطلب الفصل بين الحيز المحجوز لمباشرة النشاط الديني، أو الروحي، وبين الحيز المحجوز لمباشرة النشاط السياسي، أو الزمني.
غير ان التطور اللاحق للأطروحات الفكرية والسياسية في الغرب أفسح المجال لظهور نوعين من «العلمانية» أحدهما يعرف بالعلمانية «اللينة» soft secularism.
وينطلق من نظرة نسبية للمعارف الإنسانية ويبدو أكثر اتساقا مع مفهومها الأصلي الذي يهتم أساسا بقضية الفصل بين الحيزين الديني والسياسي، ويسعى للحفاظ عليهما وحمايتهما معا، والآخر يعرف بالعلمانية «الخشنة» hard secularism، ويتبنى طرحا معاديا للدين، بدعوى أن المعارف المستمدة من التراث الديني غير منضبطة من الناحية الابستمولوجية، نظرا لصعوبة إثبات مقولاتها بالعقل أومن خلال التجربة. وتوجد نماذج عديدة لأطروحات فكرية تتبنى هذا المفهوم للعلمانية، كالأطروحات الماركسية التي وردت في مقال نشره ماركس عام 1844 تحت عنوان «مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل» وكالأطروحات «الأتاتوركية» التي ترى مارست العداوة بحق الإسلام.
وذهبت في محاولالتها الرامية لتعقب واستئصال مظاهره في تركيا منحى شديد التطرف، وهذا النوع هو الذي تستند إليه فصائل الإسلام السياسي خاصة في العالم العربي، لنعت كل «العلمانيين العرب» أي كل من لا ينتمون إلى أطروحاتهم الفكرية، بالالحاد على الرغم من أن العلمانية في مفهومها الأصلي لا تعني الإلحاد أو تتعمد الانتقاص من مكانة ودور الدين في الحياة وفي تطور المجتمعات، ما ساهم في حدة الاستقطاب السياسي والفكري المنتج للأزمة الراهنة في العالم العربي.
تدرك مختلف الفصائل والتيارات السياسية والفكرية «العلمانية» في العالم العربي أن الإسلام كدين، الذي يخلو من طبقة الإكليروس أو رجال الدين، له فهم خاص لطبيعة العلاقة بين الدين والدولة يبدو مختلفا إلى حد كبير عن فهم الأديان السماوية الأخرى.
كما تدرك هذه الفصائل والتيارات أن للعالمين العربي والإسلامي تجربة في التطور السياسي والاجتماعي تختلف تماما عن التجربة التاريخية التي مرت بها أوروبا عبر مراحل تطورها المختلفة، وبالتالي فإن النقل الميكانيكي للدروس المستخلصة من التجربة الأوروبية إلى الواقع العربي لا جدوى منه، ومن المؤكد أنه يحمل في طياته مخاطر عديدة.
غير أنه ينبغي على الفصائل المنتمية لتيار الإسلام السياسي، على اختلاف توجهاتها، أن تدرك أن الإسلام لا يحدد شكلا معينا للنظام السياسي.
ولأن النظام السياسي لأي دولة هو الإطار المؤسسي الذي طريقة عمل المؤسسات وآليات اتخاذ القرار في هذه الدولة، بصرف النظر عن الدين الذي تنتمي إليه أغلبية المواطنين فيها، يتعين أن يوكل أمر تحديد شكل ومضمون هذا النظام لاختيار كافة المواطنين في هذه الدولة، دون تمييز بينهم على أساس من الدين أو العرق أو الجنس أو غير ذلك من اشكال التمييز. وفي هذا السياق لا يمكن عقلا تصور وجود أي تناقض بين الدولة التي يقوم نظامها السياسي على مفهوم الديمقراطية الكاملة والمواطنة وحقوق الإنسان وبين الإسلام.
ومن هنا تأتي أهمية ما تطرحه حركة النهضة حين تتحدث عن إمكانية الفصل بين الدعوي والسياسي والاحتفاظ في الوقت نفسه بمرجعية فكرية وسياسية إسلامية.
ومن المفيد جدا أن يكون قرار حركة النهضة موضوعا لحوار سياسي حقيقي ومثمر بين مختلف الفصائل والتيارات السياسية والفكرية في العالم العربي، وليس لجدل فكري وسياسي عقيم يكرس حالة الاستقطاب القائمة حاليا.