الحادثة التي هزت السعودية فجر الجمعة الماضية، باغتيال توأمين داعشيين والدتهما الطاعنة في السن، ومحاولتهما قتل والدهما وأخيهما الأصغر، جريمة تهتز لها الابدان، وتشيب لها الرؤوس وتعجب لها العقول. جريمة انسلخت من كل قيم الرحمة والشفقة والبر، وظهرت بشكل بشع لا ينتجه خيال أفظع. ولم تكن هذه الجريمة هي الاولى في مأساة قتل الاقارب وانما سلسلة من الاحداث الحزينة بدأها الإرهابي محمد الغامدي الذي قتل والده بعد أن أبلغ الأمن عنه بخميس مشيط «جنوب السعودية»، في ليلة السابع والعشرين من رمضان العام الماضي. وتلاها الحادثة التي وقعت قبيل حلول وقت آخر إفطار في شهر رمضان الماضي عندما قام عبدالله الرشيدي بقتل خاله العقيد راشد الصفيان قبل أن يقدم على تفجير نفسه عند احدى النقاط الأمنية، وهو من قام بتربيته بعد انفصال أمه عن زوجها، حيث يسكن هو ووالدته في الدور العلوي من منزل خاله، مرورا بحادثة الشملي، شمال السعودية التي وقعت أول أيام عيد الأضحى من العام الماضي، التي نفذها سعد العنزي بالتعاون مع شقيقه بقتل ابن عمهما الذي لم يكمل سوى شهر في وظيفته العسكرية في القوات المسلحة وكان يعيش معهم في منزل واحد. مرورا كذلك بحادثة وكيل الرقيب بدر الرشيدي، احد منسوبي قوة الطوارئ الخاصة بمنطقة القصيم، عندما قام 6 من اقاربه ممن ينتمون الى تنظيم داعش باستدراجه، وهو أعزل إلى موقع ناءٍ على الطريق (الرياض- القصيم- المدينة المنورة)، وقتله غدرا بكل خسة ودناءة. واختتمت بالعمل الإجرامي بحادثة التوأمين قبل أيام. هذه الاحداث المتشابهة المترابطة هي برأيي في مجملها نتاج لمفاهيم مثلت البنية الفكرية والعقائدية والأيديولوجية التي يقوم عليها الخطاب الارهابي والتي يمكن تلخيصها في ثلاثة مفاهيم رئيسية:
مفهوم الجهاد، وهو بلا شك مصطلح شرعي اصيل له دلالات شرعية محددة ومقررة عند العلماء والفقهاء، وهو مفهوم منبثق من الكتاب والسنة. الا ان هذا المفهوم للأسف تم استغلاله من قبل التنظيمات الارهابية لإضفاء المشروعية الدينية على ممارسات القتل والعنف والارهاب. فمعظم التنظيمات الارهابية اقحمت مفهوم الجهاد في خطاباتها بهدف سعيها للبحث عن التعبئة أو الحشد الجماهيري. وتنظيم داعش لم يختلف عن التنظيمات الارهابية الاخرى في استغلاله لهذا المفهوم بل فاق التنظيمات الاخرى من خلال اعتماده على أساليب دعائية حديثه مستندة إلى تقنيات التواصل الاجتماعي الحديثة. وبالتالي فهذا المفهوم يعتبر من أكثر المفاهيم التي يحتاج إلى إعادة تعريف وضبط اصطلاحي ومفاهيمي، كي يمكن التفرقة بين الجهاد كمفهوم شرعي وبين ما تفعله هذه التنظيمات من ارهاب وقتل تحت مسوغ الجهاد.
مفهوم الآخر هو مفهوم الحاكمية، فكل التيارات الارهابية بلا استثناء استغلت هذا المفهوم لإلغاء شرعية الانظمة والمجتمعات وإضفاء المشروعية الدينية على حمل السلاح ضدهم. ويتمثل هذا المفهوم في رفض الحكم بغير ما أنزل الله، واعتبار الحاكم بغير الشريعة الإسلامية حاكما كافرا. والربط بين تحكيم الشريعة وبين أصول العقيدة الإسلامية. وقد تحدثت عن هذا المفهوم بشكل مفصل في مقالي «داعش وكابوس «الديستوبيا»» وقلت ان هذا المفهوم من اهم المفاهيم التي ساهمت في التوجيه الفكري لكثير من الحركات والتيارات المتطرفة في القرن العشرين. بدأت هذه الفكرة مع الخوارج، وبعد أن اندثرت او كادت تندثر عادت مرة أخرى على يد أبو الأعلى المودودي (عالم في الهند) في إطار مشروع تأسيس دولة باكستان الإسلامية، وصياغة دستورها. ثم استحضرها سيد قطب (الأب الروحي لكل الجهاديين في مصر) في كتاباته وطورها في إطار مواجهة ما يسميه بالجاهلية المعاصرة التي كانت تدعمها الدولة الوطنية في مصر، ثم تبنتها الجماعات الإرهابية التي ظهرت منذ 1965 وانتهى بها المطاف في فكر تنظيم القاعدة وتنظيم داعش. وذكرت في مقالي ان مفهوم الحاكمية بالمعنى الذي تسوقه التنظيمات الارهابية مفهوم معارض لفكرة الدولة الحديثة والمواطنة، ولإيقاف هذه الديستوبيا للأنظمة والمجتمعات من قبل هذا التنظيم أو غيره من التنظيمات التي تتبنى نفس الفكر هو في أولا: العمل على تفنيد شبهات التكفيريين على المستوى الفكري وتوضيح انحراف استشهادهم بنصوص الحاكمية. فالمؤسسة الدينية سواء الرسمية او غير الرسمية عليها عاتق تفنيد مثل هذه الشبهات في كافة الوسائل وعلى جميع المنابر والعمل على ترسيخ الفكر المعتدل والوسطي. ثانيا: يجب تجريم الخطاب التكفيري من أي جهة كانت، بإصدار تشريع يضع العقوبات الرادعة لأي خطاب من شأنه شق الوحدة الوطنية، لحماية الجبهة الداخلية من التطرف والتعصب والتشدد. ثالثا: الدخول بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي والوصول إلى الشباب؛ لدحض الفتاوى التكفيرية وتفنيد شبهات هذا التنظيم، ونشر الثقافة الوطنية وتشجيع الشباب على المشاركة في أنشطتها.رابعا: النظر في امكانية التنسيق والتعاون مع حملة سكينة ومركز صواب (في دولة الامارات) التي تستخدم شبكات التواصل الاجتماعي للرد على النشاطات الدعائية لتنظيم داعش التي تروج للحاكمية على الإنترنت، مع دول مجلس التعاون الخليجي.
المفهوم الثالث يتمثل في مفهوم الولاء والبراء، والذي يعتبر من أبرز المعتقدات الدينية التي تم استغلالها لتكون احد روافد الخطاب الارهابي. فوفقا لتصور التيارات الارهابية «كل تعامل مع غير المسلم يمثل شكلا من أشكال المداهنة والتنازل في دين الله». وبالتالي فالتطور الحتمي لهذا المفهوم هو تكفير كل الانظمة التي تتعامل مع الانظمة غير المسلمة مما يبرر حمل السلاح ضدهم. وبالتالي هذا المفهوم يعطي المبرر الشرعي لهذه التنظيمات على حمل السلاح ضد الأعداء الخارجيين.
واخيرا أرى ضرورة تجديد الخطاب الديني من خلال مراجعات فقهية وفكرية حقيقية وعميقة للتصدي لفتاوى القتل باسم الدين ودعاوى الجهاد دفاعا عن الشرعية. لا بد من مراجعة وتصحيح كثير من المفاهيم والأفكار والمعتقدات الاسلامية التي تم تشويهها وتحريفها من قبل جماعات التطرف والتشدد والارهاب واستندت عليها في تجنيدها لأبنائنا او في جرائمها. فبهذه المراجعة والتصحيح سوف تفقد هذه التنظيمات الارهابية سواء داعش الارهابي او غيرها الاسس الايديولوجية والسند الفكري والديني التي تستند عليها وتستمد منها قوتها.