قصيدة النثر مُفارِقةٌ «تقول شيئًا وتعني شيئًا آخر» حسب تعريف مايكل ريفاتير لها، ولا يمكن القبض عليها كشيء ملموس، فمعانيها مخاتلة ترحل بك إلى مضامين تحسب أنها استقرت فيها، لكن عند وصولك تجدها فقط إشارات تدل على هذا المعنى ونقيضه في آن واحد. تتخلى عن كل ما عرفته من «التأويل» وتشيح بوجهك مُغاضِبا لمقولات هايدغر وغادامير باعتبار تلك المهمة هي حدس روحي وقراءة تضيف للمعنى ولا تكتفي باستخراجه! هنا تلوم الشاعر والفيلسوف والناقد.
يعتذر لك خورخي لويس بورخيس، الشاعر والناقد، بأنه بعمره الذي تجاوز السبعين يقف حائرا ومرتبكا لتفسير معنى كلمة «شعر» أما أكتافيو باث، فيحرضك على كتاب القصيدة الحديثة، وأنهم يكتبون في ظل غياب قارئ مفترض لإيصال المعنى بوضوح إليه (ولم يحاول أي من الشعراء المبشرين بالحداثة أن يسعى لنيل رضا الجمهور، بل العكس من ذلك كانوا يسعون متعمدين إلى الكتابة بطريقة تتنافى وذوق الجمهور) موريس بلانشو يشرح لك المعنى الذي يقصده باث، في أن اُسلوب الكتابة الحديث لا يعمل كما التقليدي بافتراضه أنه يكتب بحضور قارئ معين، ذلك تجاوزته الحداثة، فالكاتب المعاصر «هو الذي يعتقد أنه يخبئ في ذاته قارئا ما، يكتب».
حينها تذهب إلى الشاعر وتكيل إليه التهم باغوائك ووضعك في موقف حرج أمام نصه عندما لم يأخذك في اعتباره ما أتوقعه، أن الشاعر أيضا يقابلك بابتسامة تتشي بشيء من الحيرة والاعتذار. فها هو صلاح فائق يقطع عليك استرسالك ويتبادل معك المواقع بشكواه من القصيدة وتجربته معها ليجعلك تتعاطف معه:
«قصائدي ليستْ وفية معي، تقطنُ خارج بيتي
حالما تظهرُ في موقعٍ أو مجلّة»
تبتسم حينها وتنظر إليه بنظرة مشككة وتحاججه بأنه يستطيع استدعاءها بسهولة كونه كاتبها. يرفع الشاعر يده بما يشبه التذمر ويصفها بأنها عاقة وغير وفية، لكن لمعرفته بسلوكها فهو يقبل ذلك على مضض:
«حتى إنها لا تزورني: لا أتذمرُ من هذا
مثل رعاة الجبال، ولا عندما يتأخرُ الشتاءُ».
أعرف أنك لا تقتنع تماما باعتذاره، وتذهب إلى شاعر آخر تستوضحه، وستقترح حمد بالفقيه، لا تجده في منزله كما توقعت، وتقتفي أثره حسب الأماكن المفضلة لديه التي وردت في أشعاره. وتلقاه هناك في مفترق طرق، بين البرية والمدينة، جالسا يقلب وجهه في السماء تارة، وأخرى في نواحٍ قصية لا يمكنك أن تدركها من سرعة تحول نظراته. وتشعر أنه أكثر ارتباكا منك عندما يناجي كائنا تعرفه وسبب مجيئك:
«أيّها الشعُر:
إن كنتَ هذا المخلُوق العائد من الوظيفة
بساقٍ واحدةٍ وعكاز؛
أو هذا العجوز الذي يجلسُ على الدّرج ويتنفسُ هواء مكدودا
أو هذه البنتُ التي مرت أمام النّافذة
إن كنتَ هذا الطفل الذي يمصُّ إصبعَه ويبتلعُ لعابَه».
فلا تجد من نفسك إلا أن تتعاطف معه هو أيضا، وتتبع الأماكن المفترضة التي يختبئ وراءها الشعر ويتصورها الشاعر (كاالغريب الذي يطرق الباب ويحمل رسائل فوق ظهره) أو (الأيدي المقطوعة والملقاة على الطريق) لحظتها تدون هذه الاحتمالات ولا تقاطعه في نجواه، لكنك تقف عند وقوفه المفاجئ وإشارته بسبابته إلى جهة معينة، مهددا ومتألما:
أيّها الشّعر:
«إن كنت تلك النّار التي بأعلى الجبلِ
أو كنتَ هذه القسمَة الخَاطئة في يدي؛
أو الخيطَ الذي ينسلُّ من خيالِ إله؛
أو كنت هذهِ الأبدية المُقمرة
إن كنت شيئا أيّها الشعر
إن كنت هذا او ذاك أو كل ذلك
فإنّك ذلك الفزع الذي سكنَ قلبي كطائرْ».
من حمد الفقيه تذهب إلى أحمد المُلا الذي «روض الوحش» ذات يوم في أحد دواوينه، وهذه المرة لا تذهب بالسؤال إلى منطقة التعميم عن ماهية الشعر وطبيعة القصيدة النثرية، بل تستدرجه إلى أن يضيء لك عتمة السؤال عن اُسلوبه وطقوسه في الكتابة الشعرية:
«أكتبُ، وأنقضُ القولَ.أفتكُ بالوقت حتى آخرهِ، أُلقيه مُفتَّتا خلفي، ولا التفت. اشتغل عنه، بلحظاتٍ تتوالى، وأعدّ لها قبضتي وأنيابي.
لو لم أخُضْهُ بعطشي كلّه، ووقفتُ جاحدا قُربَ جناحَيه، كيف لهذا النهرِ، أن يسعى إلى الملحِ جاهدا».
تنتقل إلى الشاعر محمد خضر، وتنوع عليه الأسئلة، زاوية أخرى لمفهوم القصيدة من خلال المحرض على كتابة الشعر، علك تظفر بما يفك انغلاق الموضوع. يجيبك الشاعر أنه يكتب ليستثير الأمل ويحرضه، والمعنى تجده ثاويا بين ثنايا القصيدة، ما يرجعك إلى مربعك الأول في البحث:
«أكتب في الوقت الضائع
نكاية بالآمال المهدرة..
أكتب بعد نشرة الأخبار مباشرة
كي تغفل العبارة عن البلاغة..
أكتب وفي فمي ماء
وأراه جيدا بين السطور..»
تقفل راجعا، وقد ازداد منسوب الحيرة لديك، وارتفع إلى درجة أنك ستذهب بسؤالك إلى أساطين البلاغة والنقد، ولتدرك حينها أن المسألة أكثر تعقيدا مما تتخيل.
فموريس بلانشو يلقي باللائمة عليك كقارئ ويصدمك «إن أكثر ما يهدد القراءة هو واقع القارئ وشخصيته، هو تجنبه التواضع وعناده على البقاء كما هو أمام ما يقرأ، على أن تكون عارفا للقراءة على العموم». ثم يخفض من حدة لهجته عندما يرى سحابة القلق الظاهرة على قسمات وجهك، ويخبرك أن قراءة القصيدة ليست هي إعادة قراءة للمكتوب من نصوص أمامك، فهذا لا يقربك من جوهر الشعر. إنما هي اللحظة التي تكون فيها القصيدة نفسها هي العاملة في القراءة والمنتجة لها. «فالقراءة ليست هي إيصال الإنتاج الأدبي، لكنها العملية التي عن طريقها يبث الإنتاج الأدبي نفسه. هي أحد القطبين (بين فعل الكتابة وتلقيها) الذين يتفجر بينهما العنف الموضح للتواصل، عن طريق عملية تجاذب وتنافر، والعمل الأدبي يصبح حينها وكأنه حوار بين شخصين».
تود حينها أن تذهب إلى من يشرح لك أكثر وبأسلوب متواضع لا يشبه لغة قصيدة النثر الذي يحتاج إلى العديد من مرات القراءة والتأمل. ديونيسيو كانياس، يقدم لك فنجانا من القهوة وكأس ماء باردا من نهر «مانزاناريس» الإسباني، وبعد أن تهدأ يتبسط في شرح ما استغلق عليك فهمه من موريس بلانشو، واتهامك بأنك كقارئ تعود على قراءة الشعر التقليدي لا تستطيع التواصل بسهولة مع الشعر الحديث إلا بفهم طبيعة الشاعر الحداثي ونظرته.
يقول لك: بما أن الشعر يوقظ فينا أحلاما وانفعالات ومشاعر كانت الحياة الروتينية قد أصابتها بالنوم، «فما يثير مشاعرنا ويوقظها في الشعر لا يتمثل فقط في إدراك صوت الشاعر، أو صوت الشخصية التي تتحدث في القصيدة بل صوتنا نحن الذي استيقظ عندما سمع صوتا آخر».
إلى هذا الحد من مجازفتك وارتحالك إلى نواحٍ عديدة في جزيرة الشعر، ستكتفي بنشوة المغامرة وشرفها وتراجع ذائقتك الشعرية على ضوء التقدم في المدارس الأدبية العالمية في مفهوم الشعر، باعتبار قصيدة النثر جزءا من إرهاصاتها، على ألا تغيب عن ذهنك أبدا مقولة دانتي: «إنه لمن المحرج كثيرا للمتشاعر الذي يغلف أفكاره بالمجازات أو الذي يلونها بالبلاغة أن يعجز عن كشف أستارها حين يطلب منه ذلك لكي يعرف المرء معانيها الحقيقية».
بالطبع كلام دانتي عن المتشاعر، أما الشاعر الحقيقي فهو الذي يمنحنا ما يعنيه رولان بارت بـ «لذة النص» وهذه اللذة هي ما يشدك كثيرا إلى قصيدة النثر.