في الدمام التي كوّمت على حافة البحر أطنانًا من الصخور، وغرست اللوحات التي تُنَبِّه مرتاديه إلى «ممنوعية» السباحة على شاطئه في الأجزاء التي لم تجتحها الصخور، في الدمام الخالية من المسابح العامة، وجدوا بغيتهم في «اليم» الذي تشكل في لمح البصر فكأنما الأرض انشقّت عنه وسال وتمدد في نفق طريق الملك فهد. لم يستطيعوا مقاومة إغرائه، فألقوا أجسامهم فيه، ربما فعلوا ذلك لاختبار مهاراتهم في السباحة، أو للتأكد من قدرتها على تحمل البرد، أو لمجرد المتعة، أو لدغدغة مشاعرهم النرجسية باستدرار ضحك وتصفيق الناس الذين تجمعوا فوق النفق وحوله.
كان عرضًا مسرحيًا قصيرًا وسريع الإيقاع ذلك الذي شاهدناه في مقطع الفيديو الذي طاف خلال دقائق في البلاد منطلقًا من الدمام التي غرقت في المطر في «ليلة خميس». كان لا ينقصه أي عنصر من عناصر العرض المسرحي، فقد توفر فيه: مكان العرض الذي تُذكر بعض ملامح تصميمه بالمسرح اليوناني القديم، والإضاءة، والنظّارة الذين شاهدوا العرض وتفاعلوا معه وعبروا عن تفاعلهم بالتصفيق والضحك والصراخ، وصوروا المؤدين الذين اعتمدوا اعتمادًا كليًا على الجسد ووضعوا قدراته على المحك.
كان عرضًا «مأسلهاتيًا»، تضافر فيه العنصران المأساوي والملهاتي «التراجيدي والكوميدي» بتمازج غير مقصود. أسهم المطر بالعنصر التراجيدى، وأما الكوميدي فقد كان مصدره جرأتهم وفنتازية انقذافهم وسباحتهم في اليم الذي تشكل في ليلة تكررت فيها مأساة الدمام مع المطر وبدرجة غير مسبوقة من الخطورة وإثارة الخوف. لم يتوقع -أو حتى لم يتخيل- أحد أن يُقْدِمَ شخص على السباحة في نفق أُغلقَ لحماية الناس من الخطر الذي يتهددهم لو قادوا سياراتهم فيه. فقد كان مصيدة تتربص بالناس في «ليلة خميس» ثبت فيها، بشكل لا يقبل الاختلاف والجدل، حقيقة أن الدمام ليست على ما يرام، وأنها تستحق أن تكون أفضل مما هي عليه، وأن مشاكلها المتراكمة واختناقاتها لن تحلها وتزيلها التصريحات والحوارات والخطابات المحملة بالمبررات أو بالوعود.
كان قفز الفتية يشبه، أو كان بالفعل، مُرَوِّحًا هزليًا (comic relief) في مساء ينذر بكوارث، ارتفعت فيه مشاعر التوجس والقلق عند الناس، بالإضافة إلى شعورهم بالامتعاض والغضب والخيبة معًا، إذ لم تبدُ الدمام في تلك الليلة المدينةَ الحديثة.
يقول المُنَظِّر الأول، أرسطو، في تنظيره عن التراجيديا إنها محاكاة لحدث جاد وكامل. المأساة وفق التنظير الأرسطي لا ينبغي أن تتخللها لحظة هزلية واحدة. بيد أنها لم تستمر بهذه الصيغة الكلاسيكية، إذ تمرد مسرحيو عصر النهضة وخرجوا عن نص النظرية الأرسطية وتعاليم هوراس وفتحوا كوة في جدار المأساة الصلد ليدخل منها الهزل عبر ما أطلق عليه المُرَوّح الهزلي الذي ذكرته سابقا. وكذلك فعل ويليام شكبير في مآسيه/ تراجيدياته (هاملت وماكبث إلخ).
كان مشهدُ سباحة الفتية مُرَوِحًّا هزليًا بالفعل؛ انفجر فجأة في وسط المأساة المطرية فخفف التوتر ومزيج مشاعر الخيبة والخوف من تطور خطورة الوضع إلى حد لا يمكن التعامل معه أو تطويقه.
أقترح أن تبحث الجهات المسئولة عن غرق الدمام عن أولئك الفتية لتشكرهم وتكافئهم على توفيرهم لحظات من الفرجة والتسلية للناس كانوا في أشد الحاجة إليها، حتى وإن كانت سباحتهم في «بحر النفق» جذبت الكثير من الضوء ولفتت الأنظار، على نحو أكثر تركيزًا، إلى واقع مأساوي كان ينذر بالخطر والكارثة. لقد ضحك الناس وشر البلية ما يضحك.
كانت ليلة الخميس الماضي خليطًا من تراجيديا وكوميديا وفنتازيا، أكون كاذباً لو قلت إنني على ثقة تامة بأن ما حدث فيها لن يتكرر في المستقبل: إغلاق أنفاق، وغرق أحياء سكنية، تعطل سيارات في المطر، وتشكل كل الأجسام المائية (بحيرات ومستنقعات وأنهار)، كل أنواع تجمعات الماء كانت موجودة في الدمام، كانت ليلة مائية بامتياز. ليلة لن ينساها على وجه الخصوص سكان حي الفاخرية الذي أصبح أشهر حي في الدمام بفضل مقاطع الفيديو والصور التي أظهرت حجم ومدى غرقه في المطر. لقد قارنه الناس بمدينة البندقية سخرية وتهكمًا، والخوف أن يطال التهكم والسخرية أحياء أخرى في الدمام، أو أي مدينة أخرى في المواسم المطرية في المستقبل.