أحدثت الحروب التي شهدتها منطقة الخليج العربي انكسارات هائلة في منظومة الأمن القومي العربي، وهددت بشكل خطير هيكلية النمط العام للعلاقات العربية ـ العربية، وقادت في محصلتها إلى تراجعات غير عادية أنهكت الجهد العربي لبلورة عمل موحد لمصلحة الأمة العربية، وأفقدت العرب ما كان لهم من بعض عناصر التوازن في عالم متغير، وساعدت على تكريس واقع الانقسام والتفتت.
وفي الحقيقة فإن أحد الأسباب التي قادت إلى هذا الواقع المؤلم هو خلفية الفهم العربي لمنهجية الأمن القومي لاسيما استقرار الإدراك حول علاقته بالقوة العسكرية إلى جانب تفسيره بأغلب مستوياته من زاوية هذا الإدراك.
لقد اصطُلح على وصف أمن دولة ما أو مجموعة دول بالأمن القومي، كالأمن القومي الأمريكي والفرنسي والألماني ...الخ، وتم ربطه بمقومات المصالح القومية (الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية) وأحياناً بالقوة العسكرية لغرض حماية تلك المصالح، كما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية في أنحاء عديدة من العالم، لكن هذا الفهم قد تمحور لدى الدول النامية في نطاق مواجهة مشكلات الحروب، في الوقت الذي تعدى مفهوم الأمن القومي إلى مجالات مختلفة، وتجربة الاتحاد السوفييتي ماثلة للعيان، حيث إن انهياره لم يكن بسبب القوة العسكرية وهو المتقدم فيها، وإنما كان بسبب مزيج ثقافي وسياسي واقتصادي هز قواعده من الداخل.
وفي الوطن العربي ظل الأمن القومي حبيس المفهوم التقليدي، وإن ادعى البعض إدراك الفهم الواسع والحديث له، الأمر الذي أعطى نتائج سلبية على الوطن العربي عموماً ومنطقة الخليج تحديداً. روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي الأسبق قال في هذا السياق إنه لا يمكن للدولة أن تحقق أمنها إلا إذا ضمنت الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي، وذلك لا يمكن تحقيقه إلا بتوافر حد أدنى من التنمية، فالظلم الاجتماعي يؤدي في نهاية الأمر إلى تعريض الأمن والتنمية للخطر.
وقد شهد العراق على مدى أكثر من ثلاثين عاماً حالة من الظلم والانهيار الاجتماعي لأسباب مختلفة تتعلق بطريقة إدارة الحكم، وجاءت الحرب الأمريكية ـ البريطانية لتلقي بظلال إضافية من الحيف على المجتمع العراقي، فهل هناك من معنى للأمن والتنمية؟
في الحقيقة ان ما حصل في العراق هو انعكاس طبيعي للخلل الذي أشرنا إليه في معنى الأمن القومي ومقاربته من الأحداث أو توظيفه لتحقيق مصالح معينة، سواء من قِـبل الولايات المتحدة أو من العراق والعرب معاً.
وحيث إن الامور قد آلت في النهاية إلى قيادة التغيير من الخارج بواسطة الولايات المتحدة، فقد أصبح الأمر جزءاً من الواقع شئنا أم أبينا، وكما يقول المثل الشعبي (وقع الفاس في الراس)، وإن لم يستطع العرب لعب دور فاعل في التعاطي مع الظروف الدولية السابقة للحرب على العراق، فإن المبادرة الآن أصبحت تمليها الضرورة أكثر من ذي قبل على الأقل فيما يخص الأمن الاجتماعي في العراق، لاسيما في فتح قنوات اتصال على شاكلة جمعيات صداقة أو مؤسسات ذات نفع عام أو العمل على تنمية التعليم أو الصحة وصولاً إلى ايجاد الرابط الاجتماعي الذي ظل مفقوداً لفترة زمنية طويلة، بل والعمل على استيعاب العراق، والذي لم يحصل في فترة سابقة. وتبقى مسألة كسر الحواجز رهينة المبادرة وليس غير المبادرة، أما أن ننتظر الإذن من المحتل، فإننا مرة أخرى نجمد ركائز أساسية من مقومات الأمن القومي العربي بل والأمن الخليجي، والعراق جزء منهما حسب جميع المعطيات. عن مركز الخليج للأبحاث