وجه سماحة مفتى عام المملكة ورئيس هيئة كبار العلماء ورئيس ادارة البحوث العلمية والافتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله ال الشيخ كلمة فى التحذير من الفرقة والامر بالاجتماع وبيان بعض أسباب الفتن وسبل النجاة منها .
وفيما يلي نص كلمة سماحته :
من عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد ال الشيخ الى من يراه من اخوانه المسلمين فى مشارق الارض ومغاربها ...
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد .. فيقول الله عز وجل " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون " .
فكون الناس يلبسون شيعا يذيق بعضهم بأس بعض هذا من أعظم أنواع العذاب وأنكاه والعياذ بالله. ولما كان التفرق والتحزب بلاء ونقمة نهى الله عباده عن القصد اليه وأمرهم بالاجتماع على الحق فقال سبحانه "اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " وأخبر أن نبيه صلى الله عليه وسلم بريء من الذين فرقوا دينهم قال سبحانه : ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم فى شيء . وكذلك حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من التفرق والتحزب والتشيع يقول النبى صلى الله عليه وسلم :افترقت اليهود على احدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على احدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة .
وفى بعض الروايات بزيادة "كلها فى النار الا فرقة " .
والمقصود أن التفرق عقوبة من الله عز وجل وهو أيضا محرم على أهل الاسلام فلا يجوز لهم السعي في الافتراق والبعد عن الصراط المستقيم والبعد عن هذا الصراط المستقيم كما أنه سبب للفرقة والافتراق فهو سبب لحصول الاقتتال والعدوات كل هذا انما يحصل بسبب الجهل أو البغى والظلم والنبى صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن كثرة القتل فى اخر الزمان يقول النبى صلى الله عليه وسلم "لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل القتل حتى يكثر فيكم المال فيفيض" أخرجه البخارى ومسلم بنحوه . وهذا وانه لما ظهر فى زماننا بعض من حادوا عن الصراط المستقيم وخرجوا على جماعة المسلمين وشذوا عنهم ووقعت بسببهم فتنة عظيمة فى الامة كان لزاما على أهل العلم أن يبينوا الحق ويدلوا الناس على صراط الله المستقيم . فمن الاسباب التى حملت بعض من زلت بهم القدم على الخروج عن الجادة وسفك دماء المعصومين والاعتداء على أموالهم وترويع الامنين : الجهل فان الجهل داء قاتل يردى صاحبه وأعظم أنواعه الجهل المركب فيسير المرء فى حياته على جهل وهو لا يعلم أنه جاهل بل يظن نفسه على الحق والهدى يقول الله تعالى قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
. وهذه الاية وان كانت فى اليهود والنصارى فهى عامة بلفظها كل من عمل عملا يظنه حسنا والى الله مقربا وحقيقة عمله أنه سيئ وهو فيه لله سخط والعياذ بالله وهذا من الجهل بدين الله ومن ذلك قول الله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا . وقد قيل ما يبلغ الناس من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه ومن الاسباب البغى فقد يكون المرء عنده علم من الكتاب والسنة لكنه يبغى ويظلم يقول الله تعالى عمن هذا حاله "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق باذنه والله يهدى من يشاء الى صراط مستقيم" . ويقول الله سبحانه "ولقد بوأنا بني اسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" .
فالبغي في العلم وبالعلم كلاهما من الظلم وهما من أسباب الافتتان والاعتداد بالرأي . قال شيخ الاسلام اذ أصل السنة مبناها على الاقتصاد والاعتدال دون البغي والاعتداء . ومن الاسباب أيضا : عدم التوفيق بين النصوص من الكتاب والسنة فينزع المستدل منهم بدليل يرى أنه كاف فى الدلالة على مقصوده ومراده ويترك الادلة الاخرى من الكتاب والسنة وربما تعسف الجواب عنها ابقاء لاستدلاله على حاله . وهذا من أعظم الاسباب التى أهلكت السابقين واللاحقين يقول الله تعالى : "هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون فى العلم يقولون أمنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا أولوا الالباب". والناس أمام النصوص التى ظاهرها التعارض قسمان قسم جعل هذا المتبادر من التعارض ذريعة للطعن فى الدين وهذا والعياذ بالله من شرار الخلق نسأل الله السلامة والعافية .
وقسم نزع بنوع من أنواع الادلة وترك النوع الاخر وربما تأوله على غير تأويله وهذه أيضا ضلاله عن الهدى واتباع للهوى . أما أهل الحق فيعملون بجميع الادلة ويحملونها على محاملها فى مواضعها على ما يقتضيه النظر العلمي الشرعي المؤصل كما فعل سلفهم الصالح من الصحابة رضى الله عنهم وأتباعهم باحسان فكانوا هم أسعد الناس بالعمل بالكتاب والسنة . والواجب على من نظر فى نصوص الوحيين أن يحسن نظره فيهما وأن يظن فيهما ما يوافق الحق وان توهم التعارض فليكل العلم الى عالمه ولا يضرب النصوص بعضها ببعض . فعن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : اذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فظنوا به الذى هو أهناه وأهداه وأتقاه أخرجه ابن ماجه بسند صحيح . وأخرج أيضا مثله عن ابن مسعود رضى الله عنه .
ومن الأسباب أيضا : اساءة الظن بالعلماء وبالولاة والامراء فينظرون الى تصرفات الامير ويحملونها على أسوأ المحامل ثم يحكمون عليه بأهوائهم بالبدعة أو الكفر والعياذ بالله ويترتب على هذا عندهم جواز الخروج ووجوب انكار المنكر بالقوة وينظرون الى أن العلماء ساكتون عن المنكر مداهنون للسلطان فيضللونهم ولا يقبلون كلامهم فيبقى الشباب بعد ذلك بلا خطام ولا زمام فلا أمير يسمع له ويطيع ويسير تحت قيادته ولا عالم يثق فيه ويأخذ من علمه ويقبل توجيهه فتتلقفه أيدى المفسدين من أعداء الدين ويستغلونه فى تحقيق مآربهم ضد أمة الإسلام باسم الدين وهذا الامر لم تكن بدايته فى وقتنا هذا وليس هو وليد العصر بل حصل منذ عهد الخليفة الراشد ذى النورين أحد المبشرين بالجنة امام المسلمين فى وقته وأفضلهم فى زمانه عثمان بن عفان رضى الله عنه فقد عاب عليه سفهاء الاحلام بعض تصرفاته فى الحكم واستحلوا دمه ولم يقبلوا من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علماء وقتهم لم يقبلوا توجيههم ونصحهم فقتلوا خير البشر فى زمانه رضى الله عنه وأرضاه ووضعوا السيف فى المسلمين وكانت بسببهم الفتنة بين أهل الإسلام (إنا لله وإنا إليه راجعون).
والواجب على شباب الأمة وعلى عامتها وخاصتها إحسان الظن بالمسلمين وبعلمائهم وولاتهم يقول الله تعالى فى حق الأنصار مع المهاجرين ومن جاء بعدهم من المسلمين والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا انك رءوف رحيم . وليعلموا أن السمع والطاعة لولاة الامر من المسلمين فى غير معصية الله واجبة لا خيار لمسلم فيها ومن عصى الامير فقد عصى الله تعالى ولا يجوز الخروج عليهم وان جاروا وان ظلموا وأدلة ذلك مبسوطة فى كتب الحديث والعقائد فان السمع والطاعة لولاة الامر من المسلمين من عقائد أهل السنة والجماعة التى فارقوا بها أهل البدعة والضلالة من المعتزلة والخوارج ونحوهم . ومن الادلة فى ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم . ويقول النبى صلى الله عليه وسلم ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم اخلاص العمل لله وطاعة ولاة الامر ولزوم جماعتهم فان دعوتهم تحيط من ورائهم . أخرجه الترمذى وابن ماجه.
ومن أقوال السلف فى هذا قول الفضيل بن عياض رحمه الله : لو كانت لى دعوة مستجابة لم أجعلها الا فى امام لانه اذا صلح الامام أمن البلاد والعباد . قال ابن المبارك : يا معلم الخير من يجترئ على هذا غيرك .
وكذلك علماء السلف يجب احترامهم وتوقيرهم والاخذ عنهم يقول الطحاوى رحمه الله فى أواخر عقيدته : وعلماء السلف السابقون ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والاثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون الا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل . قال شيخ الاسلام رحمه الله : فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن خصوصا العلماء الذين هم ورثة الانبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدى بهم فى ظلمات البر والبحر وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم اذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فعلماؤها شرارها الا المسلمون فان علماءهم خيارهم فانهم خلفاء الرسول فى أمته والمحيون لما مات من سنته بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وهم ورثة الانبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر . وليتفطن شبابنا لمخططات أعداء الدين وليسألوا أنفسهم من المستفيد من التفريق بين المسلمين وولاة أمورهم وقادة بلدانهم .
من المستفيد من زعزعة أمن البلاد المسلمة ووضع السيف عليهم واراقة دمائهم .
من المستفيد من نزع الثقة من علماء المسلمين وترك العامة يهيمون لا يدرون من يسألون ولا من يوجههم ويدلهم على الحق .
ان من تأمل هذا حقا علم أن الامة انما تصاب مصيبة عظيمة حين تنزع الثقة من ولاة أمرها ومن علمائها وتكون الامة هائمة يقودها كل ناعق ويزج بها فى أودية الهلاك كل مفسد تحت شعارات ورايات الله أعلم بما ورائها . ومن الاسباب أيضا : الغلو فى الدين اما فى فهمه واما فى تطبيقه والغلو آفة عظيمة مهلكة فعن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال اياكم والغلو فانما أهلك من كان قبلكم الغلو فى الدين أخرجه الامام أحمد يقول محمد بن نصر المروزى رحمه الله وهكذا عامة أهل الاهواء والبدع انما هم بين أمرين غلو فى دين الله وشدة ذهاب فيه حتى يمرقوا منه بمجاوزتهم الحدود التى حدها الله ورسوله أو اخفاء وجحود به حتى يقصروا عن حدود الله التى حدها ودين الله موضوع فوق التقصير ودون الغلو . والله تعالى يقول قل يأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الغلو وبين عاقبته الوخيمة يقول صلى الله عليه وسلم هلك المتنطعون قالها ثلاثا أخرجه مسلم. هذا وان من تعلم دين الله على الحقيقة علم أنه دين السماحة والرفق واللين دين الرحمة والعدل فهو الدين الذى وضع الله به الاصار والاغلال عن العباد قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبى الامى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم اصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون". وكان من دعاء المؤمنين الذى استجاب الله له ربنا ولا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين وقوله عز وجل "والذى جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذى سبقونا بالايمان ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رءوف رحيم" . والاصل فى هذا الدين السماحة والرفق ولم يأت بالعنف فيجب على المسلم أن يعى هذا ويفهم دينه وفق هذا الاصل العظيم يقول الله سبحانه يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .
ويقول النبى صلى الله عليه وسلم ان الدين يسر ولن يشاد الدين أحد الا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة أخرجه البخارى.
ويقول صلى الله عليه وسلم ان الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق مالا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه أخرجه البخارى ومسلم واللفظ له . فالواجب على الشاب المسلم وعلى عموم أهل الاسلام أن يعلموا أن طريق الاصلاح لا يكون بالعنف أبدا فالاسلام ليس دين عنف بل دين الرحمة بالانسان بل والحيوان يقول النبى صلى الله عليه وسلم "الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من فى الارض يرحمكم من فى السماء" أخرجه أبو داود والترمذى واللفظ له وقال حديث حسن صحيح وجاء وصف النبى صلى الله عليه وسلم فى القرآن بالرحمة "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم والله سبحانه رفيق يحب الرفق ويعطى عليه ما لا يعطى على العنف" .
ومتى تصور المسلمون الاسلام بغير هذا التصور أو طبقوه على خلاف هذا الاصل فانهم سيحرمون الخير يقول النبى صلى الله عليه وسلم من يحرم الرفق يحرم الخير أخرجه مسلم . والغلو فى فهم الدين ينتج عنه أمور تجر عواقبا سيئة وخيمة منها الغيرة غير المنضبطة بضابط الشرع فتجر على صاحبها وعلى مجتمعة بلاء عظيما لا شك أن المؤمن يجب عليه أن يغضب لله عز وجل ولا يرضى أن تنتهك محارمه لكن يجب عليه أيضا أن يكون عمله وانكاره وفق شرع الله فانه ان زاد عن الحد المشروع فقد وقع فى منكر ومحرم من حيث يريد الاصلاح فيجب على المسلم ألا تخرج به غيرته عن الضوابط الشرعية يقول النبى صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان . اخرجه مسلم.
فالنبى صلى الله عليه وسلم أمر بالتغيير ولم يأمر بالازالة ولو أمر بالازالة لكن فيه حرجا شديدا والتغيير ينظر فيه الى قاعدة الشرع العامة وهى النظر فى المصالح والمفاسد اجتماعا وافتراقا وأيضا يجب على من تصدى لتغيير المنكر أن يكون عنده علم بأن هذا منكر وعلم بأسلوب التغيير المناسب بحيث لا يعقبه منكر أشد منه أو يفوت مصلحة أعظم وأيضا يكون رفيقا حليما حال انكاره صبورا على ما يصيبه من الاذى ولا ينتقم لنفسه.
ومما ينتج عن الغلو فى فهم الدين ما يثار حول الجهاد فى سبيل الله وتصوره على غير وجهه الصحيح فهناك من استغل حال الامة وما ابتليت به من الاعداء فرفع شعار الجهاد ليجلب اليه شباب الامة وليس الجهاد الذى يقصده هو الجهاد فى سبيل الله وذلك يتضح من أمور نص عليه أهل العلم . أولا الاصل فى الجهاد أنه فرض كفاية وأن أمره موكل للامام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فى ذلك . ثانيا أنه للامام أن يؤخر الجهاد لعذر كأن يكون بالمسلمين ضعف فى عددهم أو عتادهم أو غير ذلك من الاعذار أو يكون فى تأخيره مصلحة لاهل الاسلام أو رجاء اسلام من يراد جهادهم . ثالثا أن الجهاد لا يتعين أى لا يكون فرض عين الا فى ثلاثة مواضع نص عليها أهل العلم وهى باجمال
1 ـ اذا التقى الزحفان وتقابل الصفان فحينئذ يحرم على من حضر الانصراف ويتعين عليه المقام (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار). 2 ـ اذا نزل الكفار ببلد تعين على أهل البلد قتالهم ودفعهم . 3 ـ اذا استنفر الامام قوما لزمهم التغير معه لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ما لكم اذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم الى الارض الاية وقال النبى صلى الله عليه وسلم اذا استنفرتم فانفروا متفق عليه . رابعا أن لامام المسلمين عقد الذمة مع الكفار وله أن يعقد عقد أمان وعهد ولا يجوز لاحد أن يخفر تلك العقود بقتل أو اعتداء على مال أو عرض ومن فعل ذلك فهو اثم مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب وليس هذا الفعل من الجهاد فى سبيل الله بل ولا هو من سبيل المسلمين الذين يخافون الله ويخشون عذابه وقد حذرنا الله عز وجل من اتباع غير سبيل المؤمنين فقال : "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" .
والمشاهد أن من تجرأ على هذا العمل فأنه لا بد وأن يصيب المسلمين فى أنفسهم وأموالهم . والنبى صلى الله عليه وسلم قد بريء ممن هذا فعله يقول صلى الله عليه وسلم : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عصبة يغضب لعصبته أو يدعو الى عصبة أو ينصر عصبة فقتل فقتلة جاهلية ومن خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس منى ولست منه أخرجه مسلم . فالامر خطير والواجب على المسلم أن يوطن نفسه على معرفة شرع الله بالادلة والعمل به على بصيرة والاخذ عن العلماء الراسخين فان هذا هو دأب السلف قال بعضهم ان هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ثم ان هناك أسبابا للعقوبات والمصائب التى تحل بالمجتمعات منها أولا الذنوب والمعاصى يقول الله تعالى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير" ويقول سبحانه "ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون" ويقول سبحانه "ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة".
والنصوص فى هذا الباب كثيرة متنوعة وهذا الاصل مقرر عند المسلمين أنه ما نزل بلاء الا بذنب ولا رفع الا بتوبة يقول الله تعالى "وتوبوا الى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون" ومهما تعاظم الذنب فان الله يتوب على من تاب "قل يا عبادى الذى اسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم" .
وثانى الاسباب العامة ترك القيام بحقوق الله ونسيان الاخرة وعدم الاستعداد لها بالعمل الصالح يقول الله تعالى (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى اذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فاذا هم مبلسون).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا رأيت الله يعطى العبد ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج وقرأ هذه الاية أخرجه الامام أحمد .
وقال النبى صلى الله عليه وسلم فى ضمن حديث له فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم . متفق عليه . وثالث الاسباب العامة الركون الى الدنيا والرضا بها والدعة وكثرة الترفه وظهور الفسق .
والمراد بالترف الترف الزائد عن الحد الصارف عن القيام بحقوق الله الحامل على ظهور الفسق والجهر به .
وقد أخرج أبو داود فى سنته عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الارفاه .
يقول الله تعالى واذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ومعنى امرنا مترفيها أى أكثرنا فساقها كما قال ابن عباس رضى الله عنهما . ويقول النبى صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه ابن حبان فى صحيحه وغيره من الائمة اذا مشت أمتى المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض والمطيطاء مشية فيها اختيال .
وعن ابن عمر رضى الله عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: اذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا الى دينكم . أخرجه أبو داود .
والمقصود أن الانغماس فى النعيم والترفه الزائد عن الحد الصارف عن القيام بحقوق الله عز وجل سبب للذل والهلاك .
هذا ما قصدنا الى بيانه ابراء للذمة ونصحا للامة وانى لاسأل الله العلى العظيم بمنه وكرمه وبعزته وقدرته أن يصلح أحوال المسلمين وأن ينصرهم فى دينهم ويهدى ضالهم ويثبت على الحق مطيعهم ويزيد الجميع هدى وتوفيقا وبرا وأن يعز الاسلام وأهله ويرفع من فى رفعته عز للاسلام والمسلمين ويضع من فى ضعته عز للاسلام والمسلمين كما أسأله سبحانه أن يبدل ذل المسلمين عزا وضعفهم قوة وتفرقهم اجتماعا على الحق وأن يرهب بهم أعداءه أعداء الدين وأن يصلح ولاة أمر المسلمين وقادتهم ويدلهم على الخير ويوفقهم للحكم بكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين وأن يجعلهم رحمة على رعاياهم أعوانا على البر والتقوى كما أسأله سبحانه أن يوفق ولي أمرنا لما يحب ويرضى وأن يجعلنا واياه من المتعاونين على البر والتقوى ويرزقنا البطانة الصالحة ويصلح لنا جميعا العقب والعاقبة انه سبحانه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره الى يوم الدين.