حين نبحث اي موضوع فلابد من الوقوف على علامات بارزة تحدد موقفنا الرئيسي منه, ومن ثم نستطيع الدخول الى صلب الموضوع, ثم جني الفوائد منه. وفي هذه الورقة نتحدث حول دور وتأثير قوانين وانظمة البلدية في ممارسة المهنة وهو موضوع حساس جدا, خاصة انك حين تبدي اي اعتراض او ضعف في هذه القوانين لابد ان يكون هناك البديل, وهذا البديل يجب ان يكون مقنعا لمن سيستمع اليك. وقد اخترت هذا الموضوع نظرا لاهميته ولان كثيرا من العامة وبعضا من المهندسين يقذفون في قوانين البلدية وانظمتها ويدعون انها غير مناسبة, ولا تراعي الخصوصية التي يحتاجها الافراد والاسر المسلمة, ولعل الغيرة على سمعة وطني وعدم موافقتي على سماع اهل بلدي وهم يتكلمون ويتقولون الاقاويل بمثل هذه الطريقة لفت نظري لهذا الموضوع, وبدأت اقحم نفسي بشتى الطرق في ظل الانظمة والقوانين, حتى اكتشفت بنفسي ان هناك خللا ما. ولكن اين هذا الخلل؟ هذا هو ما كنت احاول معرفته طوال سنتين مضتا. ولعل هذه الورقة ستكون محصلة ما وقفت عليه طوال بحثي حول القوانين والانظمة خلال هاتين السنتين.
اعرف مسبقا ان موضوعا كهذا الموضوع كبير وشائك جدا ولكن اطلاعي على هذا الموضوع من قبل ومعرفتي ببعض المشاكل وكيفية بداية ظهور المشاكل مع البلدية هو ما دفعني للقيام به, ولعلي اقوم ببحوث اخرى بعد هذا البحث للوقوف على نتائج افضل واقوى. فالموضوع لا يقف عند حد كلمة قانون او نظام يطبق على طبقة معينة من الشعب السعودي. ان الموضوع اكبر من هذا بكثير, فالبلديات (في الدول الاسلامية بصفة عامة) غالبا ما تستمد انظمتها وقوانينها من الانظمة الغربية وعند معرفة الحقيقة او لنقل عند الالتفات لها (لانه لا يخفى على احد) فان الفطرة تقول انها غير مناسبة للمجتمعات المسلمة, وذلك لاسباب كثيرة, منها ان عادات واخلاق الغرب تختلف عن المسلمين, كذلك معتقداتهم, واهدافهم في الحياة مختلفة فهدفهم هو العيش في افضل وضع ممكن, وليس لهم هدف آخر غير الحياة, اما المسلمون فهدفهم الفوز بجنات عرضها السموات والارض.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
الا التي كانت قبل الموت يبنيها
فان بناها بخير طاب مسكنه
وان بناها بشر خاب بانيها
من هنا اتضح لي ان اتباع هذه القوانين المستقاة من الغرب لن يؤدي الى التطور الذي هو الهدف من ايجادها وتطبيقها, بل العكس صحيح, ستكون النتيجة هي انتقال عدوى الاخلاق والفكر الغربي الى المسلمين.
هذا ما اتضح لي بعد فوات الأوان. ومن خلال محاولاتي في الاحتكاك مع اصحاب العقارات (ابتداء من الفلل الى المباني الكبيرة التي تتعدى عشرة ادوار) وجدت ان كثيرا منهم يحاولون الالتفاف على هذه القوانين. واذكر بعض المواقف التي مررت بها:
1- فوجئ عبدالواحد الذي قضى ما يزيد على خمس عشرة سنة لشراء قطعة ارض وبناء مسكن له ولعائلته ولاولاده من بعده بموظف البلدية وهو يقول له (لقد زادت نسبة البناء عن النسبة المطلوبة)!! مع العلم انه لم يسبب اي ضررلأحد من جيرانه. فلماذا يمنع من التصرف في مسكنه كيف يشاء؟ خاصة بعد العمر الذي قضاه في جمع الاموال ليبني المسكن الذي طالما حلم به!
الم يكن السبب في وضع هذه القوانين هو توفير الراحة والجو المناسب لجميع الاشخاص حتى يكون هذا الشخص منتجا؟ أليس هذا الهدف من القوانين والانظمة؟ وانا على يقين ان هناك كثيرا من الاشخاص مثل عبدالواحد وربما كان هو افضل حالا من غيره. وهناك موقف آخر لعله اقسى من موقف اخينا عبدالواحد.
2- امرأة كبيرة في السن (نقلا سمعيا عن د. جميل اكبر) زار مسكنها احد موظفي البلدية ورفع عليها شكوى يدعي فيها انها لم تلتزم بالارتداد المطلوب. وقد حكمت البلدية بفرض غرامة مالية على هذه العجوز نظرا لاعتدائها على القوانين. وكانت هذه العجوز فقيرة لا تستطيع سداد هذه الغرامة, وقد اشفق عليها حتى القاضي الذي اصدر الحكم وكان جميع من مرت عليه هذه المعاملة يشفق على هذه العجوز, ولكن القانون هو القانون ولابد من دفع الغرامة, فما كان من هذا الموظف الا ان قام بجمع تبرعات من موظفي البلدية لسداد الغرامة عن هذه السيدة العجوز.
ان هذا الموقف يجعلنا نفكر بجدية في موضوع مراعاة القوانين للصغير والكبير والغني والفقير. وان المساواة بينهم ليست بمعاملتهم على نفس المستوى او بتطبيق نفس العقوبات عليهم, خاصة اذا ما تعلق الموضوع بالماديات, لانها تختلف من شخص لآخر وتتباين بين الغني والفقير. اما اذا كان متعلقا باخلاقيات او حفظا للامان فهذا لا بأس به من وجهة نظري لان الخلق والامن مطلوبان من جميع الفئات على نفس المستوى, فمثلا كمجتمع مسلم لن نرضى لفقير ان يكون قاتلا! او سارقا, لان لديه القدرة بطريقة او بأخرى على كسب مال حلال, ولكن لماذا نمنع الفقير من بناء اقل من نصف متر قد دفع ثمنه جهدا جهيدا ولا نعلم اي معاناة قد قاساها ليدفع ثمن الارض, وكم استغرق ليجمع ثمن البناء؟؟
3- في احدى الزيارات الجامعية لاحد المكاتب الهندسية الاستشارية, قام المهندس بعرض احد مشاريع المكتب وكان المشروع عبارة عن فندق, المهم في الموضوع ان ارتفاع المبنى يتعدى الارتفاع الذي تسمح به قوانين البلدية, ولكن لان الشكل الخارجي للمبنى كان جيدا. وقد توقع مسؤول البلدية ان يزيد هذا المشروع من (الحركة الاقتصادية في البلاد) فقد تم منح الرخصة لهذا المشروع. ماذا لو كان هذا الفندق امام مجموعة من المنازل؟ ألن يكشف خصوصية هذه المنازل؟ ان هذه الحالة ليست خاصة بهذا المشروع فقط ولكنها لاي مشروع قد يفيد البلاد ويزيد حركتها الاقتصادية والسياحية. السؤال الذي يطرح نفسه: ما السبب لوضع هذه القوانين؟؟ هل هو راحة الشخص وبالتالي جعله شخصا منتجا؟ ام هو انتاج واجهة جميلة للبلد؟ حاولت مناقشة هذا الموضوع مع اكثر من مهندس, وكانت نتيجة النقاش ان القوانين شيء لا يمكن تنفيذه 100% ولا يمكن ان نقوم بمراقبة المراقبين ومنفذي القوانين. ولكن كان هناك شبه اتفاق من جميع الاشخاص الذين ناقشتهم ان القوانين تحتاج الى بعض التطوير.
وكانت خلاصة تلك المناقشات انه يجب الوقوف على حد واحد وجعله الاهم, وقد اختارت البلدية طريقة تطبيق القوانين (نظرا للسان حالها) ان يكون الجانب الجمالي للبلد هو الاهم وكانت النتيجة ان اصبح المواطن شخصا يبحث على الالتفاف على هذه القوانين ومن ثم عدم الاهتمام بما تقوم به هذه الدولة لاجل المواطن لانه لا يصدق تلك الاقاويل. بل ان ما يشعر به ان جميع منشآت الدولة هي لغرض خدمة السياحة والاقتصاد وليس لخدمة المواطن. وهذا ما جعل المواطن عديم الاهتمام بهذه المنشآت. هذه احد مضاعفات تطبيق الانظمة والقوانين بصورة خاطئة. ولكني اقف عند هذا الحد حتى لا اخرج عن موضوعنا اكثر.
ومن هنا جاء دور البحث عن البديل الذي يجب عليه مراعاة راحة المواطن وتشجيعه على العمل ليكون المجتمع منتجا وفعالا, وبين الشكل الجميل والحضاري للبلد, فللحصول على هذين الميزتين في العمارة لابد من الاهتمام اولا بجعل المواطن فردا منتجا وفعالا, ثم جعله يفكر في بلده لان بلده فكر فيه, فغريزة الانسان انه يعطي من يعطيه, واعني انه اذا استطعنا ان نجعل من المهندس فردا منتجا يجب فتح جميع المجالات امامه وازالة العوائق بينه وبين القوانين, وهذا سيؤدي الى زيادة استيعابه وكثرة الافكار وامكانية تطبيقها. اي انه لن تكون هناك مشكلة تواجه المعماري او المهندس او اي فرد سوى مشكلة كيفية تطبيق فكرته. وهذا سيؤدي الى رغبته في التعلم اكثر لتطبيق افكار اروع. بهذه الطريقة سنطلق العنان للفكر ان يطير الى اعلى حد ممكن, وحتى لا تكون عملية البناء بدون ضوابط سيكون هناك شرط وحيد على المالك والمهندس ان يراعيا هذا الشرط جيدا, هذا الشرط ليس موجودا في كتب العمارة ولم يتكلم عنه احد من كبار المعماريين. ولكنني اضمن انه اذا تم اتباعه فان مستوى المعماريين سيتطور بلاشك ومستوى العمارة كذلك هذا الشرط جاء على لسان افضل الخلق على الاطلاق جاء على لسان الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال (لا ضرر ولا ضرار) لنعلنها لكل المعماريين والملاك ابن ما شئت كيفما شئت واين ما شئت, شرط ان لا تضر بمن حولك. اني على يقين اننا سنرى نماذج معمارية لايمكن تخيلها. ايضا حاولت تطبيق هذا القانون على النوازل الثلاث السابقة, فوجدت انها تساعد كل حالة على ان تكون في افضل وضع ممكن لها, فعبدالواحد لن يصاب بالاكتئاب ولن يتكبد مصاريف اضافية لتعديل التصميم والمرأة العجوز لن تضطر الى البكاء او الاستذلال لموظف البلدية حتى يدفع عنها الغرامة او يرفعها عنها والمكتب الكبير سيحصل على رخصته دون ان يظلم جيرانه ويكشف خصوصيتهم.
ولكن ماذا عن مضاعفات مبدأ لا ضرر ولا ضرار؟ لابد من دراسته حتى يمكننا قبوله (الا يكفينا انه جاء على لسان من (لا ينطق عن الهوى) ألسنا كمسلمين يجب علينا ان نصدقه ونكذب القوانين التي اخذناها من الغرب؟) كما ذكرت انفا فان المشكلة الوحيدة التي تواجه المصمم ستكون امكانية الاضرار بجيرانه, اذا لو اراد احداث شييء يسبب ضررا لجاره فعليه احد خيارين, الاول ان يتفق مع جاره على هذا اضافة لهذا العنصر الذي قد يضره (هذا اذا لم يبد الجار اي تضرر اي ان العنصر الذي قد تظن انه قد يضر بالجار, هو في الحقيقة لا يضره). فوجوده بجانب جاره سيطول مدى العمر, ولابد ان تكون علاقته جيدة مع جاره, وسيحرص كلا الاثنين على دوام هذه العلاقة. وليس كما نرى في ظل القوانين الحديثة, فلو اراد الشخص اضافة عنصر الى بنائه او كان بناؤه فيه عنصر قد يضر بجاره, فعلى الجار الشكوى للبلدية والبلدية ستقوم باستدعاء هذا الشخص وسندخل في سلسلة استدعاءات وقضايا طويلة عريضة لا نهاية لها والنهاية سوء علاقة الجيران, هذا اذا لم تمتد الى حدوث مشاكل اكبر. الحل الآخر هو الاحتيال على الضرر اي انه يقوم ببناء العنصر الذي يريده شرط الا يصل الضرر الناتج عن هذا العنصر الى الجار فمثلا. اذا افترضنا ان شخصا ما تخرج في معهد ميكانيكا واراد تحويل الكراج الى ورشة لتصليح السيارات, فقوانين البلدية لن تسمح له بذلك لانه في حدود منطقة سكنية, وان كان هناك حدوث لهذه الظاهرة في الواقع فهي تحدث من باب (البلدية لا تعلم) اي ان هناك تحايلا على القوانين والانظمة والجار المسكين عليه تحمل ضرر الصوت المزعج والروائح الكريهة لان ذلك اهون من الشكوى للبلدية والنتيجة هي زيادة عدد البطالة علاقة سيئة بين الجارين. اما في حال تطبيق نظرية لا ضرر ولا ضرار فسنقول لهذا الشخص لو اردت تحويل بيتك كاملا الى ورشة فليس هناك ما يمنع ولكن عليك ازالة ضرر الصوت والرائحة عن جارك. فربما يقوم هذا الشخص باختراع جديد لازالة هذه الاضرار والنتيجة تكون زيادة عدد الايدي العاملة وجود اختراع مفيد للمجتمع وللبلد. لا اريد القول ان وضع القوانين والانظمة شيء مرفوض, ولكن طريقة وضعنا لهذه القوانين هو المرفوض حيث ان وضعها قد اخذ من الغرب وليس من تعاليم شريعتنا الغراء, والمطلوب هو الرجوع الى الشريعة في تنظيم حياتنا, وانا على يقين من الحصول على افضل النتائج في جميع النواحي البيئية وليس فيما يختص بالعمارة فقط.