يشيع على ألسنة المراقبين والمعلقين السياسيين عند التعرض لتأثير الانتفاضة على الرأي العام الإسرائيلي تشخيص يرى أن غالبية الجماهير الإسرائيلية تزداد تطرفاً وتوجهاً نحو اليمين. وإذا كانت هذه الظاهرة صحيحة على مستوى السطح الظاهر للأحداث فانها لا تمثل كل الحقيقة فيما يتعلق بتوجيهات هذه الجماهير، فالجزء العميق غير المنظور في حياة المجتمع الإسرائيلي والذي لا يمكن الاطلاع عليه إلا من خلال مرآة الأعمال الأدبية التي ينتجها الأدباء الإسرائيليون بحكم معايشتهم للمجتمع ينطوي على درجات متعددة من المخاوف والاضطرابات النفسية الناتجة عن مخاطر الصراع مع العرب،
ومن هنا فانني اعتقد أن من الحكمة ألا نتعامل مع التوجه نحو التطرف باعتباره الوجه الوحيد للتفاعلات الإسرائيلية فمثل هذه المعالجة تنتهي بصاحبها إلى نتيجة خاطئة تفيد أن الجولات المختلفة للصراع العربي الإسرائيلي لم تترك آثارها على الحياة الداخلية للإسرائيليين ولا تدفعهم إلى معاودة النظر في مواقفهم المتطرفة اتقاء لجولات أخرى من الصراع، الحقيقة أن الفعل العربي المقاوم قد ترك آثاره وبصماته على توجهات الإسرائيليين وهو قادر على تليين تطرفهم ودفعهم إلى النظر باحترام إلى الحقوق العربية وأصحابها، صحيح أن رد الفعل المباشر وقصير المدى لجولات الصراع عادة ما يكون متشدداً ومتطرفاً ولكن الحسابات بعيدة المدى تؤكد أن تفاعلات المخاوف والآلام تظهر لتتغلب على اتجاهات التطرف لتتبلور في السؤال الضروري وهو كيف يمكن للإسرائيليين تجنب جولة أخرى من الصراع الأليم دون الالتفات بالفهم لدوافع العرب في ممارسة الصراع وتحمل نتائجه.
ويذكرنا التشخيص الوارد على ألسنة المعلقين السياسيين في حالة جولة انتفاضة الأقصى بأقوال مماثلة ترددت كثيراً في جولة سابقة من الصراع تمثلت في حرب الاستنزاف المصرية لقوات خط بارليف على حافة قناة السويس بعد سقوط سيناء تحت الاحتلال عام 1967. فقد ذهب العديد من المعلقين تحت تأثير ميزان القوة المختل لصالح اسرائيل وفي ضوء العمليات المكثفة التي كان يقوم بها الطيران الإسرائيلي داخل العمق المصري إلى القول بأن حرب الاستنزاف تلك لا تجلب للجانب العربي سوى الخسائر ولا تؤدي إلى تليين مواقف التطرف الإسرائيلية المتشبثة باحتلال سيناء.
ولا بد هنا من تنبيه المشتغلين بالتعليقات السياسية إلى ضرورة رصد التفاعلات العميقة لردود الفعل الإسرائيلية من خلال مرآة الأدباء. لقد تولدت لدى الباحث قناعة بأهمية هذا المنهج الذي يجمع بين القياس السياسي والقياس النفسي الاجتماعي من خلال التركيز على دراسة الأدب الإسرائيلي الصادر في اللغة العبرية خلال فترة حرب الاستنزاف.
ولقد قدمت للمكتبة العربية كتاباً كاملاً رصدت فيه المخاوف والتفاعلات الإسرائيلية مع آلام تلك الجولة من الصراع في كتاب الهلال تحت عنوان أضواء على الأدب الصهيوني عام 1972م، وهو ما اسهم بشكل مباشر في تصحيح التقويم السائد لدى المعلقين السياسيين.
من النماذج الأدبية التي أخضعتها للدراسة قصة قصيرة بالغة الدلالة على اثر الصراع في النفس والمجتمع الإسرائيليين للأديبة بنيناه عاميت نشرت عام 1969 في خضم العمليات الدائرة، في القصة المنشورة بعنوان الحالمة تقدم الأديبة تفاعلات واسعة النطاق تدور داخل البيت الإسرائيلي وتلقي بظلها الكئيب على حياة النساء والرجال بل وتمتد آثارها إلى الموقف من إنجاب الأطفال خوفاً عليهم من طبيعة الحياة المؤلمة التي يعيشها الكبار. فالبطلة في القصة والتي تظهر في صورة الراوية للوقائع تعيش تحت ضغوط هائلة نتيجة لغياب أخيها وزوجها في ساحة القتال. والأخبار المتتالية لسقوط الجنود تفزعها وتدفعها إلى رؤية كابوس متكرر، وأمها تلح عليها بضرورة انتهاز فرصة عودة زوجها في إجازة من ميدان القتال لتنجب لها حفيدا، غير أن رعبها من أن يعيش طفلها الموعود في واقع مشابه لما يعيشه زوجها وأخوها يدفعها إلى الهروب من مشروع الإنجاب، وتواصل حياتها على نحو ميكانيكي خال من أي مشاعر بالبهجة وهي تذهب وتعود من عملها معتبرة منزل الزوجية مجرد مسكن لا اكثر ولا اقل.
يقول النص الأدبي على لسان البطلة عندما أقامت أمها وليمة احتفالاً بعودة أخيها سالماً من ميدان القتال وطلبت منها أن تشارك الأسرة في بهجة الحفل وفي الاستماع إلى قصص البطولات التي قام بها أخوها وزملاؤه في الميدان: "أنني تعبة يا أمي ولم لا تدركين أن قصص البطولة في الحرب كريهة إلى نفسي؟ ما هذا الذي تتحدثين عنه يا أمي؟ أليست هذه هي الحرب؟ أنني لا افهم الموت وان كان هو الشيء الوحيد الذي يتجاوز حدود الشك في واقع حياتنا".
وفي موقع اخر من القصة وعندما تسألها أمها عن الإنجاب بلهجة التوسل طالبة أن يكون لها حفيد تقول البطلة الراوية لنفسها وكأنها تحدث أمها دون أن تتحدث في الواقع "في إحدى الليالي منذ سنوات عديدة كنت أنت يا أمي وأنا وأخي الصغير وأبى داخل حفرة في صراخ ورائحة شياط ووجوه مذعورة وصوتي ضائع من الفزع بينكم جميعاً وسط الدمار والريش المتطاير والنار المحيطة بنا وهربت إلى حقل بينما شعري يحترق وساقي مجروحتان.. لم انجح في طي ماض داخلي وطفولتي تصرخ من لحمي الحي.. من عيني وهما تنظران حولي فلا تريان شيئاً لان كل شيء ينهار، يداي لا تمسكان بأي شيء فكل شيء يحترق" ان طبيعة هذا الواقع النفسي العميق الذي تحدثه جولات الصراع في النفس الإسرائيلية هي أمر لا يمكن تجاهله في حساب آثار هذه الجولات بما فيها انتفاضة الأقصى على توجهات الجماهير الإسرائيلية وإلا كان حكماً ناقصاً.