"العلم يؤتى" موقف مشهود لأحد الأئمة الأربعة مع أمير المؤمنين الرشيد, كونه رسخ مفهوما عظيما في احترام العلم والمكان الذي يتداول فيه وضرورة شد الرحال اليه, وهو المنطق الذي عرفه امام الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه للخليفة العباسي والمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم في إجلال العلم وتعظيم مكانته, وليس عبثا ان تضع العديد من الدول المتحضرة ومنها مملكتنا الحبيبة جل اهتمامها بقطاع التعليم من خلال تخصيص نسبة كبيرة من ميزانياتها في سبيل النهوض به.. لكن بالرغم من البلايين التي صرفت في هذا القطاع الحيوي الهام وخلال جميع خطط التنمية السابقة والتي تفوق ما صرف في بعض الدول المتقدمة, مازالت مؤسسات الدولة المعنية بالتعليم بمختلف مستوياته تواجه تحديات كبيرة جدا لا تتماشى مع خططها الطموحة وخاصة في توفير البيئة التعليمية المناسبة وتحديد المنشآت التعليمية وتجهيزاتها الملائمة حيث لا تزال نسبة كبيرة منها اما مستأجرة او غير مؤهلة!!
ذلك لا يقلل من شأن الوزارات والمؤسسات التعليمية المسؤولة وجهودها الحثيثة حيث يمكن تأكيد بعضها من خلال قراءة الصحف المحلية مؤخرا عن اخبار توقيع عقود تنفيذ ما مجموعه 65 مدرسة بلغت قيمتها 250 مليون ريال (بمعدل 3.8 مليون ريال للمدرسة الواحدة), اضافة الى توقيع عقود تمويل لبناء 41 مدرسة بواسطة ممول وطني وهي شركة (التعفف) بمبلغ 366 مليون ريال (بمعدل 8.9 مليون ريال للمدرسة الواحدة؟).. بعيدا عن الخوض في مسألة التفاوت الكبير في السعر بين طريقتي البناء والتي تصل الى اكثر من 5 ملايين ريال للمدرسة الواحدة, المهم ان هذه المبالغ موجهة إلى بناء منشآت عملية ستتحقق الاستفادة منها مباشرة من قبل فلذات الأكباد وعماد المستقبل وليست للوجاهة والمنظرة التي ابتلينا بها في عصري الطفرة الاولى والحديثة والتي تمثلت في انشاء (معالم) و(دور) لا يستفيد منها سوى من يعملون بها ناهيك عن التكاليف الباهظة المترتبة على استمرار صيانتها (!!).
لعل من قبيل المصادفة ان يأتي موضوع خاطرة اليوم متوافقا في معظمه مع خاطرة نشرت في شهر رمضان الماضي حول مزاجية الصرف على مشاريع المفاخرة والمنظرة والبهرجة الاعلامية التي لا تقدم او تؤخر, مفوتة الفرص على القطاعات الأكثر حاجة مثل قطاعي الصحة والتعليم, لكن المحزن هو استمرار نزيف الصرف على بعض المباني الحكومية مثل أمانات المدن والبلديات الرئيسة والفرعية التي يمكن ان تمثل مثار الجدل حول ماهية وظائفها وما يجب ان تحتويه من ادارات وما يجب الا تحتويه, خصوصا ونحن نعلم ان معظم العاملين بها يجب ان يكونوا في ميادين العمل الحقيقية (مراقبة الأسواق والمنشآت والورش والممتلكات العامة بالمتابعة اللصيقة لها خصوصا من خطر العابثين والانانيين والمخالفين), وليس الجلوس في المكاتب الوثيرة والاجتماعات الصورية التي تؤصل جوانب سلوكية (غير محببة) في (ادارة خدمية بحتة) من ابغضها الروتين الممل و(مرمطة) عباد الله وتعطيل مصالحهم وادخالهم في أنفاق مظلمة.
لعل الصور الحقيقية المتمثلة في فوضى استعمالات الاراضي, تجيير المساحات الخضراء لمزاعم التحديث الأسمنتية والزفتية والجيرية ووو.., جعل المدن ميادين سباق محمومة للمركبات من خلال التوجه في توسيع الشوارع والطرقات وبالتالي زيادة نسب الحوادث المرورية, فوضى التعديات على الممتلكات العامة والخاصة, فوضى اللوح الدعائية لغرض الاستثمار, تزايد النفايات ورمي المخلفات في الاراضي البيضاء, تزايد حالات التسمم بسبب ضعف الرقابة اللصيقة على المطاعم والبقالات والمصانع الغذائية, وغيرها من امور يندى لها الجبين ربما تعكس مآسي الجلوس في المكاتب, والفائدة المرجوة من وراء انشاء مبان فخمة خالية من مضامينها الحقيقية المتمثلة في تقديم خدمات ميسرة للعباد ورعاية مصالحهم في أماكن اقامتهم او عملهم, وليس اجبارهم على "اسلوب المراجعة" الذي أنهك الجميع لدرجة (التعوذ) من دخول هذه المباني (الفخمة صوريا).
وانا ادقق في خبر صحفي نشر مؤخرا عن عزم إحدى الامانات الرئيسة تنفيذ مبنى جديد لها في الواجهة البحرية وبتكلفة اجمالية قدرها 163 مليون ريال لم اصدق الخبر كون أمينها من القلائل الذين غيروا مفهوم وظيفة (معالي الأمين) من خلال تواجده في ميادين العمل ومن خلال الذهاب الى الجمهور وتلمس احتياجاته ومعالجة مشاكله على ارض الواقع وببنطال جينز!! كم كنت اتمنى من معاليه لو انه وظف نصف المبلغ اعلاه على الأقل (ولو بحذف تسعة ادوار من المبنى المقترح) في إنشاء او تعزيز المكاتب الفرعية التابعة للأمانة, وزيادة عدد المراقبين والفنيين والمهندسين الميدانيين وليس المكتبيين على الأقل, ربما ساعد ذلك في تلميع صورة الأمانة الحقيقية وليس واجهتها الزجاجية.