في الأحساء مهن كثيرة، وهي مهن أصيلة مرتبطة بالمكان وإنسانه.
مهن وليدة الحاجة، حاربت العوز والفقر،
مكنت من الاعتماد على النفس، واستثمار موارد الإنسان المتاحة.
مهن خلقت حضارة البقاء، مكنت الإنسان في هذه الأرض، من استمرار البقاء حتى اليوم،رغم قسوة البيئة والمناخ. مهن زادت من فاعلية وقدرة الإنسان على مواجهة ظروف الحياة.
مهن قادت إلى الحياة الكريمة.
وكانت تحارب الفقر وتغني عن التسول. ولابد من ايجاد أسواق لهذه المهن،لكي تستمر ويزيد التلاحم بين هذه المهن،عبر تبادل المنافع ونتائج القدرات.
ولذلك أصبح لهذه المهن عوائل مشهورة،
كل عائلة تتقن مهنة بعينها،
وهذا يعطيها حق التميز وخدمة الآخرين. المميز في هذه المهن،هو قدرة أصحابها على تسويق نتاج مهاراتهم،عبر طرق عديدة، ومنها الأسواق.
أسواق الأحساء قديمة ولها أيامها المعروفة،
وهي أسواق متخصصة، في المكان وفي المعروضات، وفقا لنوع المهنة. فكان هناك أسواق خاصة،
في مواقع مختلفة من مدن وقرى الأحساء.
تعرض بضاعتها في يوم محدد. في هذه الأسواق يتم تبادل المعلومات وعرض البضاعة،
التي هي نتاج العقل المحلي،
وصناعة البيئة المحلية، تساهم بدور كبير في إثراء تجربة الإنسان،وتشجعه على التواصل والبقاء. أسواق تنبض بالحياة، وبكل مهنة حية،للوفاء باحتياجات الناس،واحتياجات مهنهم واحتياجات الناس من حولهم.
تعاون وتبادل مصالح.
سجلت في الأحساء اكثر من 70 مهنة،
حافظت على الإنسان في هذه الواحة التاريخية.
ولكن كم بقي منها حيا يتم تداوله وتوظيفه؟ ضاعت هذه المهن مع ضياع أسواقها.
هناك مهن اشتهرت بها الأحساء،ولم يكن هناك منافس لها،وتبحث عنها الآن ولا تجدها.
تسمع عنها، ولا تعرف من كان يمارسها. ضاعت أسرار إتقانها،
وهي مهارات تموت مع موت أصحابها.
موت جيل هذه المهن،عبارة عن فقد مكتبات،لا يمكن استرجاعها حتى بقوة الغرب ونظرياته وتقنياته. إنها مهن بسيطة تحقق أهدافا كبيرة. مهن تتفتت في ظل النظريات الغربية والشرقية،وفي ظل تجاهلنا لأهميتها، وفي ظل عدم اعترافنا بفضلها. مهن اصبح الجميع ينظرون إليها كأحد مظاهر التخلف.
مهن قضت عليها بضاعة هونـج كونـج.
ولكننا جزء من هذا القضاء الذي لم يرحم.
مهن ضاعت لضياع أسواقها. وتبحث في الأحساء عن الأسواق القديمة ولا تجدها.
الكل يحارب أصحابها حتى تحولوا إلى خردة في عالم الأحياء. جيل أغرته أسواق السندباد الغربي والشرقي،
فعاث فسادا في مدخراته التراثية،
يبحث عند الآخرين عن بضاعة جديدة تشبع سرعة ثرائه. نسي تاريخه المهاري،الذي حافظ عليه من الضياع عبر العصور.
أليس هذا نكرانا وجحودا لفضلها؟ في ضياع تلك المهارات،
ضياع لانتمائنا، وضياع لتاريخنا،وضياع لاستقلالنا،وضياع لإبداعنا.
وضياع حتى لأرضنا. أن تضيع برغبة وعن سبق إصرار فهذه مذلة. ويبقى التاريخ يحكي قصة الإنسان،وقد نصبح قصة يرويها السندباد. فهل ترغب أن تكون مادة لقصة عند الآخرين؟ قصة كانوا، ثم اصبحوا.
وعند ضياع الإنسان لن يكون هناك قصة.
القصة لها أبطال.
وقصتنا ستكون في موت الأبطال. أبطال تلك المهارات يموتون.
ومع موتهم تموت مهاراتهم التراكمية.
ونبقى ناس للفرجة. يتم (تعليفنا) من كل صوب وحدب.
وتمسون وتصبحون على خير.