كانت الأمة تعيش في غالب عهودها السابقة ضمن كيان سياسي واحد، هو دولة الخلافة الإسلامية، ولكنها منذ قرن من الزمان، وبعد سقوط دولة الخلافة، أصبحت تعيش ضمن عدة كيانات سياسية، تمثل الدول القومية القطرية للأمة.
وتتنوع الأنظمة السياسية الحاكمة في الدول الإسلامية، في اتجاهاتها الفكرية والسياسية، ولم تصل بعد فيما بينها إلى صيغة من العلاقة الإيجابية، التي تؤهلها للتكامل، وتحولها إلى كتلة واحدة تضارع سائر التكتلات والأحلاف العالمية.
والأسوأ من ذلك انحدار العلاقة بين بعض هذه الدول الإسلامية إلى هاوية الصراع والنزاع، حيث وقعت حروب مأساوية دامية، ضحاياها أبناء الأمة من أطراف النزاع، ووقودها إمكانات الشعوب الإسلامية وثرواتها.
ومن آخر وأفظع نماذج هذه الحروب، ما عانته منطقتنا الخليجية من حربي الخليج الأولى والثانية، التي أشعلها النظام البائد في العراق ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودولة الكويت.
ودفعت المنطقة بكاملها ثمناً باهظاً لتلكما الحربين الداميتين، من أرواح أبنائها، وخاصة من شعبي إيران والعراق، ومن ثرواتها حيث لا تزال دول المنطقة ترزح تحت أعباء آثار تلك الحربين. كما حصلت نزاعات عسكرية بين دول إسلامية أخرى، أما النزاعات السياسية والإعلامية بين بعض الدول الإسلامية، فلا تكاد تمر سنة تخلو من أزمة بين دولة إسلامية وأخرى.
إن الخلاف على الحدود هو من عوامل النزاع الأساسية، وقد كان للاستعمار دور كبير في بذر بذور هذه الخلافات الحدودية، فعندما انسحبت القوى الاستعمارية من البلدان الإسلامية التي كانت تحتلها، تركت خلفها هذه الألغام، المعدة للانفجار، حيث رسمت الخرائط الحدودية، بشيء من الغموض في بعض خطوطها، ونوع من التلاعب المقصود.
كما أن سعي بعض الأنظمة للتبشير بتوجه فكري أو سياسي معين، جعلها في موقع صراع وصدام مع أنظمة أخرى.
ولا ننسى وجود أطماع للنفوذ عند بعض هذه الأنظمة، تدفعها للتدخل في شؤون بلدان أخرى، وقد يصل هذا التدخل إلى حد السعي لتغيير النظام، أو خلق قوة مناهضة له، أو دعم تيار معارض. وفي أحيان كثيرة، يكون للقوى الأجنبية الخارجية دور أساس في دفع بعض الأنظمة للنزاع والصدام مع بعضها، لخدمة أهدافها ومخططاتها.إن هذا الاضطراب في العلاقة بين الدول الإسلامية، حال دون حصول أي تقدم حقيقي لوحدة الأمة، وأوقع بها خسائر كبيرة، وأنتج مضاعفات خطيرة.
فإضافة إلى الخسائر المادية في الأرواح والممتلكات، وضياع الثروات، وهدر الإمكانيات، فإن هذا الاضطراب وما واكبه من انعدام الثقة، والشعور بالقلق لدى دول إسلامية تجاه أخرى، صرف الأنظار عن الأعداء الحقيقيين الطامعين في الهيمنة والنفوذ على العالم الإسلامي، لتتجه إلى معارك مفتعلة، وعداءات زائفة، لم يقتصر الانشغال بها على الأطراف المنجرفة إلى النزاع، بل شغلت كل ساحة العالم الإسلامي وأربكت واقعه.
إن ميزانيات الدفاع، وبرامج التسلح، واهتمامات أجهزة الأمن، وخطط الإعلام، وحتى مسار التحالفات والعلاقات الخارجية، أصبحت متجهة لدى هذه الدول صوب بعضها، مما يعني إن حجماً هائلاً من الجهود الهامة والإمكانات الثمينة للعالم الإسلامي، قد صرفت ضمن مشاكل هذه النزاعات والخلافات.
وكنموذج لقلق بعض الدول الإسلامية من بعضها نذكر ما اتخذته الكويت من إجراءات لحماية نفسها من أي حماقة أخرى قد يرتكبها نظام صدام البائد في العراق، حيث أشادت سوراً حدودياً معقداً أنفقت عليه ميزانية ضخمة.
ويتألف السور الحدودي الذي جرى بناؤه خلال التسعينيات ويمتد مسافة 217 كيلومتر: من خندق بعرض خمسة أمتار، وعمق ثلاثة أمتار، يحازيه ساتر ترابي بعلو أربعة أمتار. ثم يلي ذلك على بعد كيلومتر واحد السور الشائك المكهرب الذي يتألف من أسوار متداخلة عدة، ثم أنشأ الكويتيون أربعة أشرطة من السواتر الترابية بين الحدود والعمق الكويتي بمعدل ساتر كل 15 كيلومتر.(جريدة الحياة اللندنية، 5 / 1 / 1424هـ) . ويقول عبدالمنعم سعيد رئيس مركز الدراسات الإستراتيجية في جريدة الأهرام بمصر: ((إن الصراع مع إسرائيل كلف العالم العربي في العقود الخمسة الماضية 200 ألف من الضحايا لكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية في الإطار العربي والإسلامي كلفت 2.5 مليون ضحية. ومن حيث الكلفة المادية فإن الصراع الأول كلف العرب حوالي 300 بليون دولار أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي 1.2 تريليون دولار))(جريدة الحياة اللندنية 27 / 10 / 1419هـ). وكما هو متوقع فقد استثمرت القوى الأجنبية الطامعة هذه الحال المضطربة من العلاقات بين الدول الإسلامية، لتمرير مخططاتها، وخدمة أغراضها، وقامت بدور المشجع والمغذي لهذه النزاعات.
ورغم أننا لا نعيش الآن نزاعاً محتدماً بين دول إسلامية، إلا أن وجود أزمات صامتة مجمدة، يجعل احتمال تفجرّ النزاعات أمراً وارداً في أي وقت من الأوقات. ما لم تعالج حال الاضطراب هذه،وتصل العلاقات بين الدول الإسلامية، إلى مستوى من الاستقرار القائم على صيغة واضحة شفافة من التعاون والتكامل. لقد نشأت للعالم الإسلامي تجمعات مؤسسية، يفترض فيها أن تقوم بهذا الدور، وتنجز هذه المهمة المصيرية، كمنظمة المؤتمر الإسلامي، وجامعة الدول العربية،ومجلس التعاون الخليجي، واتحاد دول المغرب العربي، وأمثالها . لقد أوشكت الشعوب الإسلامية أن تفقد أملها في هذه المؤسسات، بعد مرور عقود على تأسيسها، وتوالي اجتماعات القيادات فيها، دون أن تحقق انجازاً وحدوياً يضاهي ما حققته الدول الأوروبية، من خطوات في صنع وحدتها الماثلة للعيان. إنه لابد من تفعيل هذه المؤسسات القائمة، وإنشاء مؤسسات رديفة، وخلق رأي عام ضاغط، باتجاه الاستقرار في العلاقات بين الدول الإسلامية.