عزيزي رئيس التحرير
قبل حوالي ست وعشرين سنة تقريبا عقد معالي الشيخ عبدالعزيز الراشد - محافظ المؤسسة العامة لتحلية المياه في تلك الفترة - ورشة عمل في لندن كان الغرض منها استعراض ومناقشة الخيارات المتاحة لتصميم مواصفات مشروع محطة تحلية مياه الجبيل المرحلة الثانية الذي يغذي العاصمة الرياض بالمياه المحلاة، وقد حرص معاليه على دعوة كل من أوتي علما او اهتماما في صناعة التحلية سواء كان من المملكة او دول الخليج او الدول العربية والصديقة للمشاركة في الحوار وكانوا من جميع المستويات الرسمية والاكاديمية والعملية من الوزارات والجامعات والشركات والمقاولين والاستشاريين، وكان معاليه على مستوى راق من الشفافية سواء في ادارة الحوار او ادارة المؤسسة، وتم نتيجة ذلك انجاز وتنفيذ اضخم مشروع تحلية في العالم في وقت قياسي وبمواصفات راقية ومعايير قياسية بالنسبة للتكلفة ومدة التنفيذ وقد انتهى عمر المشروع الافتراضي ولايزال ينتج ويمد الرياض بالمياه ويعتبر مصدرا رئيسيا لمياه الرياض ومن دونه تفقد الرياض مقومات الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
كان معاليه لا يتعامل بالاجتماعات السرية المغلقة ولا المناقشات الفردية، بل يتعامل ويستمع ويستفيد من الجميع ، يطرح ويستمع ويناقش جميع الخيارات، حيث ان القيادي في أي جهاز ، هو بمثابة المرشد والموجه والمحفز لفريق العمل، لا تتوقف عنده المعاملات والقرارات خلال الانتدابات والسفرات والاجتماعات والارتباطات، ولا يضطر مدير مكتبه الى شحن المعاملات الى بيته او مكان اقامته في حقائب، بل يفوضها لمن هو اجدر وأكفأ بانجازها واقرب للقرار وظروف العمل، ولا يضطر اصحاب المصالح لشد الرحال الى مكان اجازته واقامته لانهاء معاملاتهم.
طاف شريط الذكريات هذا في خيالي، خلال مشاركتي في ورشة العمل (خلال الفترة من يوم السبت 18 الى الثلاثاء 21 من شهر ذي القعدة 1424هـ)، حيث اعاد التاريخ نفسه وشارك افراد من المجتمع من الاكاديميين والمسئولين من الشركات والجامعات والجهات الحكومية والقطاع الخاص في هذا الحوار، لمناقشة تقرير المرحلة الاولى للخطة الوطنية للمياه الذي يشمل تقييم الوضع الراهن والذي اعده وقدمه فريق من البنك الدولي لوزارة المياه والكهرباء، استطيع ان اراهن على ان احدا لم يطلع بنتيجة خلاف نتيجة واحدة ألمح لها تقرير البنك الدولي وهي ان المواطن هو المسئول عما يعانيه المجتمع من ازمة في المياه من خلال استهلاكه الذي يتراوح من 300 - 400 لتر في اليوم للفرد (حسب ما جاء في التقرير) والذي اعتبره التقرير استهلاكا مرتفعا وألمح الى ان ذلك هو سبب الازمة وينادي صراحة برفع تسعيرة المياه.
الا ان الاسباب التي ساهمت في خلق ازمة المياه التي يعاني منها المجتمع في هذه المرحلة، يمكن حصرها في عدد من العوامل والظروف، اذكرها هنا لازالة النظرة القشراوية الاختزالية ولان السكوت والصمت في هذه المرحلة خيانة للوطن والمواطنين ، ولابد ان تكون لدينا الشجاعة للاعتراف بهذه الاخطاء ، من هذه العوامل والظروف التي ادت الى ازمة المياه :
أولا : تأخير اعتماد المبالغ اللازمة لتنفيذ مشاريع التحلية ، حيث انه يلاحظ عدم تنفيذ مشاريع محطات التحلية المدرجة في خطط التنمية الخمسية حسب ما يخطط لها، بل تؤجل سنوات، وهناك مشاريع محطات تحلية مؤجلة منذ خطة التنمية الخمسية الاولى الى الآن لم تنفذ أي منذ حوالي 34 سنة (مشروعي القنفذة والليث) ، وبالتالي عند تنفيذ المشروع تكون معايير الدراسة والجدوى والتقديرات وجميع متغيرات التخطيط غير صالحة، هنا لا نلوم المسئولين في وزارة المالية لانه نعلم انها تقع تحت ضغط جوي أقوى منها لتوجيه المبالغ المالية لوجوه انفاق قد لا تأخذ اولوية واهمية مباشرة في توفير الخدمات للمواطنين.
ثانيا : حساب استهلاك الفرد في المملكة ومقارنته مع استهلاك الفرد في الدول الاخرى والاستنتاج بأنه مرتفع قد لا تعكس الصورة الحقيقية لانها لا تشمل جميع متغيرات المعادلة، ففي المملكة هناك تسرب عال جدا في شبكه المياه قبل ان يصل الماء للمواطن ، قدره التقرير من 30% الى 50% ، وهذا لو تم تداركه من خلال صيانة الشبكة، لنتج عنه توفير هذا الفاقد وكان مكسبا كبيرا.
ثالثا : التشغيل الذاتي لمحطات التحلية وما له من متواليات وتداعيات أدت الى قفل الفرص امام القطاع الخاص ومزاحمته بل وطرده من السوق مما نتج عنه عدم قيام وازدهار سوق صناعة التحلية في المملكة، أدى ذلك الى سيطرة المؤسسة على السوق واحتكارها انتاج الماء وارتفاع تكلفته وحرمان المواطن من مكاسب منافسة مصادر بديلة ومنافسة للمؤسسة في توفير المياه وبأسعار ومستوى خدمة افضل، مثل ما هو حاصل في قطاع التعليم والصحة حيث تقوم الوزارات المعنية بتوفير الخدمة بالتوازي مع القطاع الخاص، ويترك الخيار للمواطنين في اختيار مصدر الخدمة المناسب له.
رابعا : الاصرار على تحقيق حلم مكلف وغير اقتصادي هو ان نكون دولة زراعية مما ادى الى استنزاف المياه (88% من المياه للزراعة أي 12% لاستخدام المنازل حسب التقرير) ونأتي الآن ونحاول تفسير هذا الحلم على حساب المواطنين وننادي برفع تعرفة المياه.
تعرفة وأسعار الخدمات ومنها المياه عندما تحددها الدولة وتتدخل في تسعيرها تدخل من ضمن الضرائب غير المباشرة وبالتالي يكون لها تأثير على اسعار منتجات بقية قطاعات الاقتصاد وعلى التضخم والسيولة المالية في الاقتصاد، اما عندما تترك لقوى السوق - العرض والطلب والمنافسة - تزيد الاسعار وتنخفض تبعا لتغير العرض والطلب فتكون من ضمن معادلة نموذج الاقتصاد الكلي Macroeconomic Model في السوق.
نأمل ان تكون هذه الورشة التي اقامتها وزارة المياه والكهرباء بداية لمرحلة نضج المسئولين وادراكهم لاهمية الحوار ومشاركة الجميع في الشأن العام، طالما ان المواطن هو المستفيد والمتضرر من أي قرار، وأخيرا وكما اكد صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء رئيس الحرس الوطني (أن الحوار لا يأتي إلا بكل خير).
@@ مهندس/ صالح بن محمد علي بطيش مدير عام مشاريع التحلية سابقا المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة/ الرياض