مازال العالم اليوم يعيش بين وهم السلام، وبين وقع السلاح. بين منطق القوة وبين منطق التاريخ.. والحقائق أحيانا قد تتوارى خلف التأويلات الكثيرة.
وبقدر ما تتلاحق أنباء الحشد أو تتراجع لهجات الاستعداد للحرب، بقدر ما تتراكم سحب الضباب أمام رؤية المتأملين.
وبقدر ما يقف العالم على مفترق الطرق بين هاجس الأخلاق وبين هاجس الأمن والأمان.
ومن ثم فالأمتان العربية والإسلامية تواجهان حصارا فكريا وإعلاميا أفرزا هموما تفتقر إلى الحوار والتأمل للخروج من مأزق الحاضر القلق إلى استشراف مستقبل أفضل.. لكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
فهناك اليوم من يقول برفض نظرية نهاية التاريخ التي بشر بها (د. يوكاهاما) على أساس أن الحضارة الغربية بكل تناقضاتها وتاريخها القلق هي المصير القادم للبشرية. وسواء كان هذا طرحا للسؤال أم كان طرحا صحيحا للسؤال فإن البحث عن الحلول للعديد من الإشكالات الفكرية بما في ذلك مبدأ الصدام الحضاري لن يوقف المتأمل عند نظرية نهاية التاريخ.
هناك أيضا من يقول إن الولايات المتحدة الأمريكية بالذات تجاوزت مبدأ الصراع الحضاري إلى صراع الإرادات والمعادلات. أو بمعنى آخر فأمريكا تعتزم إعادة النظر في كل ما رسمته بريطانيا من خرائط في سالف عصور مجدها.
ومن ثم فالمتطرفون الأمريكيون يريدون إعادة رسم خرائط أخرى للشرق، قد تبدأ من العراق وربما إيران. وقد بدأت في السودان انتقالا إلى آسيا إلى الدول التي خرجت من النفق السوفياتي وصولا إلى بحر قزوين مرابطة على مشارف الصين وروسيا الاتحادية.
هناك أيضا من يقول بأن المثقف العربي يسرف أحيانا في تحميل الذات العربية وزر ما يحدث.
وهناك من يعطي الأحداث أكبر من وزنها ويترك للخيال أن يصنع حقائق جديدة. والمثقف العربي وعبر عصور مختلفة، حاور ذاته وتاريخه وتوقف عند بقع الضوء ومواطن الإعتام، واعترف عبر حوار طويل بوجود أخطاء تاريخية اعتمدت على عنصر القوة وإلغاء الحوار بين السلطة وبين الأمة. وقد ترتب على هذا ظهور مدارس العنف والعنف المضاد وعبر تلاحق الأزمنة منذ قيام الدولتين العربيتين العتيدتين الأموية ثم العباسية. وللتدليل على أن عنصر القوة ليس هو الخلاص من الأزمات، يحدثنا التاريخ عن قصة يعقوب بن الليث الصفار، الذي كان يحتمي بسواعد العيارين عندما أعلن العصيان على الخلافة في بغداد، واعتمد القوة الغاشمة خروجا على البيعة عندما استدعى الناس وقام فيهم خطيبا، ثم جرد سيفه ولوح به في الهواء قائلا "هذا السيف أقعد الخليفة في بغداد أميرا للمؤمنين وها هو يقعدني أميرا في نيسابور وعهدي وعهد أمير المؤمنين واحد".
ذلكم نموذج من حقائق التاريخ العربي، الذي وقع كثيرا في فخ العضلات، وأساء استعمال منطق القوة بإلغاء منطق الحوار وتجاهل منطق التاريخ.
منطق التاريخ يؤكد عبر حزم من الحقائق والوقائع بأن الاعتماد على القوة مقاومة خاسرة لمنطق التاريخ وتيار البقاء البشري.
عندما يلجأ الناس إلى السلاح، فإن العلاقة تهبط بالحوار إلى القتل. والصور في فقه التجارب المعاصرة قائمة حتى في نماذج من أنماط التعسكر والانقلابات التي عاشها العالم العربي خلال أكثر من ثلث قرن، وما زالت الآثار قائمة في أكثر من قطر عربي.
إن منطق القوة قد يسهم في حزم القوالب إلى زمن ما.. ولكن الحوار المتكافىء بين السلطة وبين الأمة يجمع القلوب، يوحد المسيرة، يفتح نوافذ الوعي، يوسع في دوائر المسؤولية المشتركة.. لتصبح الأمة شريكة في تحمل المسؤولية.
وإذا كانت القوة كيفما كانت أو كان حجمها أو إمكاناتها قد شكلت خطرا على الذين يواجهون السلاح فإنها في المقابل خطر على الذين يمارسون القتل. وإذا كنا هنا لا نصحح موقفا، ولا نرد على الذين تلاحقوا في معارك التاريخ وضباب المعارك، لأن العدد الأكبر منهم لا يملكون مشروعا فكريا يستحق التأمل. والحديث عن منطق القوة هو حديث الساعة. والتاريخ يحدثنا بأن روما القديمة القوية في أزمنة غابرة قامت على القوة وعلى سفك الدماء، وانهارت روما وانتهى مشروعها الحضاري ليتحول الباقي إلى آثار يرتادها السواح. منطق التاريخ يقول لا حضارة مع العنف والقتل والتوحش. لأن القفز على الثوابت والحريات الإنسانية هو معاد لتيار التاريخ. وفي التاريخ العربي المعاصر يواجه المتأمل لحظات ضعف يستسلم فيها العرب للخوف من عناصر الاستقواء لأننا ـ مع كل أسف ـ وفي العديد من المواقف لا نتعامل مع تجارب التاريخ، ولا نضع أقدامنا على أرض ثابتة.. ومن ثم فقد نتنازل عن الحقائق لنجد أنفسنا خارج التجربة أو خارج الحل. والحديث عن فقه التعامل مع التاريخ حديث هام، لأن التعامل مع التاريخ يضع الحلم المشروع في مكانه لتحقيق الممكن دون المستحيل. لكن منطق القوة هو منطق الطموح بلا قراءة بلا حدود، كما حدث باجتياح التتار لبغداد والشام، أو كما حدث من النازية في الحرب العالمية الثانية، وقد انتهت التجربتان إلى العدم. لقد ظن التتار أن عنصر القوة والعدد البشري قادران على إلغاء ثوابت التاريخ، وكذا خيل لهتلر بأن منطق القوة وحده سيلغي حقائق الوجود ويطفىء نور التاريخ. ولعلها قضية الساعة في حلم أو طموح الأقوياء، حلم عصبة التطرف الأمريكي، وحلم عصبة شارون في الأرض العربية المحتلة. فهم يملكون منطق القوة في الزمن الحاضر، لكنهم لا يملكون التاريخ. وإذا كانت (تراجيديا) العنف واستعراض عضلات القوة العسكرية قد أرهبت العالم أو ألزمته الصمت على أقل تقدير، فإن مثل هذه المشاعر قد تدفع بأطراف أخرى إلى العنف وإلى خلط الأوراق مرة أخرى ما يؤدي إلى القراءة الخطأ لكل فصول التاريخ.
الوطن الكويتيه