بعدما انقضى عام على فاجعة 11 سبتمبر، بوسعنا أن نقر بأن العرب والمسلمين خسروا الكثير، لكن الولايات المتحدة كانت علـى رأس الخاسرين، حتى أزعم أن خسارتها كانت اكبر من المنظور التاريخي والثقافي. نعم، خسر العرب والمسلمون سمعتهم ومصالحهم، لكنهم خرجوا من العام بمثل ما دخلوا فيه، باستثناء بعض الكدمات والكسور. أما الأمريكيون فقد خرجوا من التجربة على هيئة مغايرة لتلك التي دخلوا بها، حيث خسروا ما هو أهم من الهيبة والمكانة. خسروا أنفسهم، وخيبوا أمل الآخرين فيهم، وتلك لعمري فاجعة أخرى.
(1)
لقد تعرضت الولايات المتحدة في 11 سبتمبر الماضي لهجوم إرهابي اتهم فيه نفر من الناس قيل انهم ينتسبون إلى منظمة القاعدة، التي كانت تعيش في كنف نظام متخلف منبوذ في أفغانستان، وردت واشنطون بسلوك إرهابي أسقطت فيه نظام "طالبان"، وأهدرت دمـاء كل عناصره، وانتقمت من الشعب الأفغاني، وفتكت بكل من اشتبهت بانتسابه إلى "القاعدة"، وأعلنتها حرباً مفتوحة ضد ما سمـي بالإرهاب، في كل أنحاء الكرة الأرضية. وما برحت تلوح بأن تلك الحرب لا تتقيد بقوانين او أعراف او حدود، وأنها قد تستمر عقداً من السنين او عقدين. ومن المفارقات أن الولايات المتحدة التي تحـولت إلى ثور هائج لا يرى في الكون غير الثأر والانتقام لان هجومـاً إرهابياً استهدف برجين في نيويورك وأدى إلى مقتل حوالي ثلاثـة الاف شخص، هي ذاتها التي استبدت بها روح الثأر والانتقام بعـد تدمير اليابانيين لأسطولها في ميناء "بيرل هاربر" أثناء الحـرب العالمية الثانية (عام 1941)، فلجأت في عام 45 إلى تدمير مدينتين يابانيتين بالكامل (هيروشيما ونجازاكي) على رؤوس سكانهما وقتلت اكثر من 250 ألف شخص. وكانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تستخدم فيها القنابل الذرية لإبادة ذلك العدد الهائل من البشر في صراع مسلح. وهي السابقة التي تدحض الزعم بأن أسلحة الدمار الشامل تصبح آمنة اذا ما كانت في يد دولة ديمقراطية، وتغدو خطـراً اذا ما كانت بيد نظام مستبد (لاحظ أن هذه أهم الحجج التي تساق الآن لتسويغ ضرب العراق).
هذا الكلام رددته اكثر من مرة على مسامع من لقيت من الصحفيين الغربيين الذين تقاطروا على بلادنا في أعقاب ما جرى في 11 سبتمبر، ومضوا يمطروننا بالأسئلة التي تركزت حول الحدث وأسبابه وتداعياته. بوجه أخص فان الصحفيين الأمريكيين كانـوا يهزون رؤوسهم وهم يستمعون إلى ما قلت، ثم يلقون علي السؤال التالي: ما الذي كان يتعين على الولايات المتحدة أن تفعله وقـد تعرضت للهجوم الإرهابي وقتل من أبنائها ثلاثة الاف شخص؟
خلاصة ما قلت في الإجابة أن أحداً لا ينكر على الولايـات المتحدة حقها في الرد ومعاقبة من ثبتت بحقهم التهمة. ولكن عليهـا أن تتصرف بسلوك الدولة العظمى التي تحترم أصول العلاقات الدولية والمؤسسات المعبرة عن الشرعية في العالم، والقوانين والأعراف المرعية. أما أن تستسلم للانفعال والغضب العارم، وتطيح بكل ما تعارفت عليه المجتمعات الإنسانية، فانها بذلك تكون قد تعاملت بشرعية الغابة، وليس بالشرعية القانونية او الدولية. من ثم فانها بعد 11 سبتمبر أسفرت عن وجه ومواقف مخالفة تماماً لكل ما ادعته لنفسها من مبادئ، وأهدرت في ذلك قيماً كانت قد أعطتنا دروساً في ضرورة احترامها والوفاء باستحقاقاتها.
(2)
خلال القرن الماضي عرف العالم ثلاثة من الرؤساء الأمريكيين ممن دافعوا عن القيم الإنسانية المتعالية، والثلاثة هم ودرو ويسلون وفرانكلين روزفلت وجون كينيدي. ولا يزال لأمريكا أصدقاء محبطون يرغبون في أن يروا صورتها المتسامحة وأهدافها النبيلة - غير أن سياسة أمريكا الانفرادية فيما خص الألغام الأرضية والمحكمة الجنائية الدولية واتفاقيات كيوتو الخاصة بالبيئة، كانت كلها مخيبة لآمال هؤلاء.
هذا الكلام ليس من عندي، ولكنه بعض ما جاء في مقالة كان عنوانها "لماذا تبدو وطأتنا ثقيلة على الكرة الأرضية" كتبها المؤرخ الأمريكي المعروف بول كينيدي الأستاذ بجامعة ييل ومؤلف كتاب "ظهور واضمحلال القوى العظمى" (نشرتها صحيفة الشرق الأوسـط في 28/2 الماضي).
مثل هذه الانتقادات ترددت في كتابات عدة. فهذا وليام فـاف الذي كتب في "لوس انجيليس تايمز" (14/8) يقول ان "الهـواة" الذي يقررون سياسات الحكومة الأمريكية يتصورون أن "من حق الإدارة الأمريكية أن تفعل أي شيء تريده، ويعتبرون ذلك أمراً مسلماً به ومبرراً. كما أن الحكومة تصر بشكل مستمر على إعفائها من الالتزام بالقانون الدولي، وظلت ترفض القيود التي تفرضها الاتفاقيات التي وقعتها الحكومات الأمريكية السابقة، وهي تطالب اليوم بأن تعفى أيضاً من بعض القيود الدستورية".
هذا التفرد الأمريكي الذي عبرت عنه بوضوح إدارة الرئيس بوش أجهض فكرة العولمة - وأثبت أنها تحمل في جوهرها سيطرة أقلية إمبريالية، إذ عندما تصطدم بمصالح الأقوياء فانه يتم الإطاحـة بها على الفور، ويلقى جانباً بمشروع العولمة كله، وإلا فكيف يفهم الخطاب الأمريكي الأخلاقي في البلقان، والنشاط العسكري الأمريكي المستمر للقبض على المتهمين بجرائم الحرب، من الرئيس اليوغوسلافي السابق إلى اصغر ضباط الميليشيات الصربية، بينما يصف الناطقون باسم الإدارة الأمريكية المحكمة الجنائية الدولية أبشع الأوصاف، ويطالبون بحصانة مطلقة للجنود الأمريكيين من الاتهام والمحاكمة؟ - (د. بشير نافع - القدس العربي - 11/7).
(3)
ما فعلته الإدارة الأمريكية في الداخل يفوق ما يتصوره أي عقل، حتى إننا لا نبالغ اذا قلنا إن اكثر إن لم يكن كل الإجراءات التـي اتخذتها الإدارة ومررها الكونجرس بعد 11 سبتمبر تمثل عدوانـاً سافراً على الحريات العامة وعلى مبادئ حقوق الإنسان.
هذا الوجه الأمريكي أثار دهشة كثيرين، وكان ما كتبه الأستاذ جميل مطر المحلل السياسي المتميز تحت عنوان "أمريكا وما دهاها" (الحياة اللندنية - 24/8) معبراً عن تلك الدهشة. إذ انتقد في تحليله المشروع الاقتصادي الأمريكي ومشروعها الثقافي والسياسي، معتبراً أن الولايات المتحدة بأسرها في أزمة. فقد تساءل مثلاً: ماذا دهى الأمريكيين حتى يسمحوا لحكومتهم بالتفكير في إنشاء نظام تجسس على المواطن الأمريكي، بحيث يتحولون إلى أمة من الجواسيـس. إذ انه طبقاً لذلك النظام الذي عرف باسم "تيبس" (Tips) سيخضع الأمريكي العادي لرقابة ساعي البريد وجامع القمامة وملاحظ الهاتف وسائق الحافلة العمومية. إذ كلهم يصبحون مكلفين بكتابة تقارير عنه اذا ما اشتبهوا في تحركاته وضيوفه وعلاقاته الشخصية، وهي الحياة الخاصة التي أحيطت بقدسية عند الأمريكيين، وتحولت إلى نمـوذج يحلم كثيرون في العالم باحتذائه. (ذكرت صحيفة "القدس العربي" في 17/7 أن الإدارة الأمريكية تعتزم تجنيد 11 مليون جاسوس لمراقبة النشاطات "المشبوهة" داخل الولايات المتحدة). في إطار اللوثة التي أصابت الإدارة الأمريكية في أعقاب 11 سبتمبر، أعيد العمل بقانون "الدليل السري"، الذي بمقتضاه يعتقل المرء ويحاكم وتتم إدانته دون أن يعرف حقيقة التهمة الموجهة ضده والوقائع المنسوبة إليه، كما اصبح من الممكن أن يلقى القبض على الإنسان ويودع في مكان مجهول، ويمنع من الاتصال بمحاميه لعدة اشهر، في حين يترك لأجهزة الأمن تحديد مصيره على هواهـا، دون أي التزام بمبدأ او قانون.
إضافة إلى احتجاجات المدافعين عن الحقوق المدنية الذيـن انتقدوا بشدة "المكارثية الجديدة" بعد 11 سبتمبر، فان بعض القضاة ضاقوا ذرعاً بسلوك الإدارة الأمريكية، وطبقاً لما نشرته "واشنطون بوست" (في 23/8) فان محكمة اتحادية سرية رفضت منح وزارة العدل الأمريكية صلاحيات جديدة طلبتها لممارسة الرقابة الإلكترونية باسم حماية الامن القومي. وقالت صراحة - في توبيخ علني نادر - ان الحكومة أساءت استخدام القانون وضللت المحكمة عشرات المرات، وان وزارة العدل ومكتب المباحث الفيدرالية زودوها بمعلومات خاطئة في اكثر من 75 طلب إصدار مذكرات تفتيش ومراقبة للمكالمات الهاتفية.
لفت الأستاذ جميل مطر الانتباه فيما كتبه إلى قرار الحكومة الأمريكية إنشاء وكالة خاصة لصياغة الأنباء والتعليقات، وترجمتهـا إلى لغات مختلفة، لتوزيعها على الصحفيين والكتاب في أفريقيـا والشرق الأوسط وأوروبا، لكي تنشر أسماءهم، وكأنها وجهات نظرهم الشخصية. والهدف من ذلك هو الاحتيال للترويج لوجهة النظر الأمريكية، عن طريق خداع القارئ العادي والعبث بمداركه، فـي عدوان صارخ على حرية التعبير وعلى ابسط مبادئ المسئولية الإعلامية.
(4)
في غمرة الانفعال وتحت ضغط الحرص على تعزيز المكانة واستعادة الهيبة، استسلمت الولايات المتحدة لفكرة "العسكرة"، وتلبستها روح الاستقواء ونزعات الهيمنة الإمبراطورية. فارتفعت في ساحتها السياسية أصوات اليمين الأصولي والصهيوني داعية إلى ممارسة القوة في بسط السلطات الأمريكية بالقوة على جهات الكرة الأرضية الأربع، مع تأديب المارقين فضلاً عن تهذيب "المنحرفين". بحيث لا تكتفي الولايات المتحدة بإسقاط الأنظمة المتمردة وإخضاعها، وإنما تذهب إلى حد هزيمة الأفكار المناهضة لها والمحرضة ضدها. وفي ذلك لا تكتفي الإدارة الأمريكية بقمع معارضيها، ولكن تذهب إلى حد إعادة رسم خرائط المناطق التي تهمها (الشرق الأوسط في المقدمة)، على النحو الذي يرضي الهوى الأمريكي (والإسرائيلي بالتبعية) ويستجيب لمقتضيات المصالح والمطامع الأمريكية. وهو ما عرضت له تفصيلاً في الأسبوعين الماضيين.
ما يحتاج إلى وقفة قصيرة هو ما وصفناه "بالعسكرة" فـي أداء الإدارة الأمريكية، التي كانت حملات التأديب الموجهة ضد الدول المعارضة من تجلياتها، لكن هذا التحول ظهر بشكل اكبر في التحولات التي طرأت على الاستراتيجية العسكرية الأمريكية، وهي التي عرضها باستفاضة نسبية وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في مقالة نشرتها مجلة "سياسة خارجية" الشهرية (عدد أول مايو الماضي)، المعروفة بأنها منبر مؤثر وعاكس لتوجهات الإدارة الأمريكية. كانت مقالة رامسفيلد بعنوان "التحولات العسكرية"، وفيها ذكر أن الاستراتيجية الأمريكية التي كانت متبعة إبان الحرب الباردة وما بعدها لم تعد صالحة للتعاطي مع عالم ما بعد 11 سبتمبر والحرب التي أعلنتها واشنطون على الإرهاب في أنحاء العالم، حيث أصبحت الولايات المتحدة تدافع "ضد عدو مجهول، وغير محدد، وغير مرئي، وغير متوقع"، الأمر الذي يقتضي وضع خطط جديدة، واستخدام أسلحة جديدة فقد كانت الاستراتيجية الأمريكية قبل 11 سبتمبر تقوم على فكرة تمكين الآلة العسكرية من خوض معركتين إقليميتين رئيسيتين في منطقتين متباعدتين في العالم، في أي وقت من الأوقات. ولكن بعد اتساع المسرح بعد 11 سبتمبر "قررنا تركيز الردع المطلوب في أربـع مسارح حيوية، مع الاحتفاظ بخيار تنفيذ هجوم شامل كاسح ضد عدو محدد، مع احتمال احتلال عاصمة العدو وتغيير نظامه" - (هل ينطبق ذلك على الوضع الراهن، الذي تخوض واشنطون ما تزعم انه معركة ضد الإرهاب في دول عدة، بينما تستعد في الوقت ذاته لاجتيـاح العراق وإسقاط نظامه؟).
(5)
في مناسبة مرور عام على ما جرى في 11 سبتمبر، اصـدر اكثر من 2000 مثقف أمريكي بياناً (نشرت الحياة اللندنية نصه في 30/8) أعلنوا فيه معارضتهم واستنكارهم لسياسة حكومة بلادهم، وجاء البيان تحت عنوان لافت للنظر هو: ليس باسمنا. ليس ذلك فحسب، وإنما دعا البيان الشعب الأمريكي إلى مقاومة السياسة "الظالمة واللاأخلاقية واللاشرعية، التي تنتهجها حكومة الرئيـس بوش، وأصبحت توجهاتها تهدد العالم بأسره".
انتقد البيان كل ما فعلته الحكومة الأمريكية بعد 11 سبتمبر، بدءاً من تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار، وانتهاء بإعلان الحرب على جبهات متعددة في الخارج وممارسة القمع في الداخل.
في دعوة إلى مقاومة آلية الحرب والقمع، ذكر البيان انه: باسمنا، وداخل الولايات المتحدة، أنشأت الحكومة شريحتين مـن الناس: أولئك الموعودون بالحقوق الأساسية ضمن النظام القانوني الأمريكي كحد أدنى، وأولئك الذين يفتقرون تماماً إلى أي حق. فقد جمعت الحكومة ما يزيد على الألف مهاجر واحتجزتهم بالسر حتى اجل غير مسمى. كما تم ترحيل المئات، في حين ما زال يذوي مئـات آخرون في السجن، مما يعيد للذاكرة الذكرى الأليمة لمخيمات الاعتقال للأمريكيين اليابانيين أثناء الحرب العالمية الثانية. وللمرة الأولى منذ عقود، أشارت إجراءات الهجرة إلى بعض الجنسيات بهدف التمييز في المعاملة.
باسمنا، نشرت الحكومة فوق المجتمع حجاباً قاتماً من القمع. وقد انذر الناطق الرسمي باسم الرئيس الناس "للانتباه إلى مـا يتفوهون به". لذا يجد الفنانون والمثقفون والأساتذة والمعارضون وجهات نظرهم عرضة للتحريف والتشويه والهجوم والقمع. فمـا يعرف بالمرسوم الوطني - إضافة إلى عدد من الإجراءات المماثلـة على صعيد الولاية - يمنح الشرطة سلطات كاسحة فيما يخص التفتيش والاعتقال، بإشراف، عندما يلزم ذلك، دعاوى قضائية سرية ترفع في محاكم سرية.
باسمنا، ثابرت السلطة التنفيذية على اغتصاب أدوار الدوائر الحكومية ووظائفها الأخرى. وقد أنشئت محاكم عسكرية لا تتطلب براهين صارمة وتفتقر إلى حق الاستئناف، وذلك بواسطة أوامر إجرائية. ويتم الإعلان عن مجموعات "إرهابية" بجرة قلم رئاسي.
(6)
يعيد إلينا البيان الثقة في ضمير ونبل بعض عناصر النخبة الأمريكية، لكنه يدعونا أيضاً إلى طرح السؤال التالي: هل ما تقوم به الإدارة الأمريكية الراهنة يمثل استثناء على السياسة الأمريكية أم انه استمرار لها وتعبير عن الأصل فيها - بكلام اخر: أيهما اصدق في التعبير عن الحقيقة الأمريكية، أداء الرئيس بوش وفريقه أم بيان المثقفين؟
منذ وقعت أحداث 11 سبتمبر، وأنا أرجع بين الحين والآخر إلى كتاب نفيس اقتنيته منذ ثلاثين عاماً بعنوان "القياصرة القادمون"، لمؤلفه الفرنسي اموري د. رينكور، وقد ترجمه إلى العربية الأستاذ احمد نجيب هاشم الذي تولى وزارة التربية والتعليم في وقت لاحق. أهمية الكتاب في انه يرى في الولايات المتحدة نموذجاً شديد الشبه بالإمبراطورية الرومانية، من حيث امتلاكها للحضارة وافتتانها بالقوة، وافتقادها للحكمة والثقافة. وهو يعتبر أن أهل الحضارة مشغولـون بالكم وخلفيتهم يكمن فيها المكان، بما يستتبعه من ضخامة وتوسـع، أما أهل الثقافة، وهم في رأيه الأوروبيون ورثة اليونان، فهم معنيون بالنوع، وخلفيتهم يكمن فيها الزمان بمعنى التاريخ بعمقه وعبقه، وهو الأمر الذي لا يجذب الأمريكيين ولا يبهرهم.
وهو يرصد عناصر التشابه بين الولايات المتحـدة والإمبراطورية الرومانية ذكر أن الحرية في كل منهما جاءت مقيـدة، اذا قورنت بالحرية الفوضوية في اليونان قديماً، او في فرنسا حديثاً. واستشهد في ذلك بما قاله الفيلسوف الكسيس دي توكفيل (قبل حوالي 150 عاماً) من انه لا يعرف "بلداً مثل أمريكا فيه ذلك القدر الضئيل من استقلال الفكر والحرية الحقيقية في المناقشة" و.. "فـي ذلك الحشد الضخم الذي تعج به المسالك المؤدية إلى السلطة في الولايات المتحدة، لقيت عدداً قليلاً جداً من الرجال الذين اظهروا تلك الصراحة الجريئة حتى يبدو لأول وهلة وكأن عقول الأمريكيين قد صبت فـي قالب واحد. فهم جميعاً يسيرون في اتجاه واحد بدقة بالغة".
وهو ينعى على أوروبا تأثرها بالحضارة الأمريكيـة ذات البصمات الرومانية قال رينكو: من الآن فصاعداً لن تؤخذ الثقافـة مأخذ الجد. وستكون مجرد نشاط هامشي، لن يسمح له بالتدخل في هدف الحضارة الخطير الشأن، المتمثل في توطيد الامن وتوفيـر الرفاهية الاقتصادية لأكبر عدد ممكن من البشر. وحينذاك سيردد كثيرون تلك الملاحظة الفطنة التي أبداها سكستوس جوليوس فرونتينوس (30 - 104م) اشهر مهندسي روما، ورئيس مصلحة المياه فيها الذي كان شديد الفخر بسقاياته الضخمة، وقد قال فيها: من ذا الذي يجرؤ على أن يقارن هذه السقايات العظيمة التي تنقل الماء بالأهرامات العقيمة، أو بأعمال اليونان الشهيرة وعديمة النفع.
لقد عدت إلى قراءة عبارة فرونتينوس مجدداً حين طالعت قبل أيام (في 2/9) تصريحاً لمساعد وزير الخارجية الأمريكي ريتشارد ارميتاج قال فيه "لدينا النفوذ والقوة والهيبة، والسلطة التي تفوق ما امتلكه بلد في التاريخ، وهذا الوضع يجلب لنا غيرة الآخرين".
انه ذات المنطق الذي يتباهى بالقوة، ويهون كثيراً من شأن العقل والحكمة. الأمر الذي يشجعنا على القول بأن بيان المثقفين الأمريكيين كان صوتاً استثنائياً، وان أداء البيت الأبيض هو المعبر الأصدق عن الحقيقة الأمريكية. وإذا صح ذلك فانه يدعوني إلـى مراجعة المنطوق الذي بسطته البداية، حيث يبدو الاصوب أن الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر لم تخسر نفسها، ولكنها كشفت عن وجهها الحقيقي الذي حجبته زمناً طويلاً الألوان الصارخة والأصباغ الكثيفة.