في مسرحية (كأسك يا وطن) يصل غوار الى البيت متأخرا فتنفجر زوجته رضية في وجهة قائلة وباللهجة الشامية: (وينك لهلا؟) او بالعربية الفصحى: أين كنت حتى هذه الساعة المتأخرة؟ وبدلا من ان يجيبها عن سؤالها، يحاول ان يعلمها اصول اللباقة وقواعد التهذيب قائلا: (الناس بيقولوا مسا الخير.. يعطيك العافية ابن عمي.. غلي قلبنا عليك.. وينك لهلا؟) وتعيد رضية، وهي غير راضية، العبارات نفسها، وكما اقترحها زوجها، ولكن بشكل آلي تسجيلي تعيدها مفرغة من اية دلالة من دلالات التواصل او الود، تماما مثلما يعيد شريط التسجيل الكلام دون ان يقصد او يفقه ما يقول. لكنها سرعان ما تعود الى طرح سؤالها الاول بالحدة نفسها.
ومعنى هذا ان عبارة (مسا الخير.. ويعطيك العافية.. وغلي قلبنا عليك) لم تكن سوى عبارات للاستهلاك، ومقدمات لا ضرورة لها لانها لم تمر بالقلب قبل ان تلامس اللسان، وهي، والحال هذه، مفردات بلا معنى، وازهار بلا اريج، اما بيت القصيد المحمل بالمعاني والدلالات فهو ذلك السؤال الذي يتطاير الشرر من بين مفرداته (وينك لهلا؟). هذا السؤال هو الذي لم يفقد طاقاته او شحناته الانفعالية. لذلك فهو العبارة الوحيدة النابضة بالحرارة والصدق رغم غلظتها وشراستها.
وسواء قصد دريد لحام من توظيف هذه اللقطة خدمة هذا المعنى على وجه التحديد، ام لم يقصد، فان ذلك لا يلغي هذا الاستنتاج، لان القارئ او المشاهد مؤلف آخر قد يضيف للنص دلالات مختلفة لم تخطر على بال مؤلف النص الاول.
واجتماعيا، فان تواصلنا اليومي في البيت والمكتب والشارع زاخر بتلك العبارات التي لاطعم لها ولا لون ولا رائحة. عبارات متخشبة نلفظها على عجل، خالية من المعنى، وغير نابضة بالحياة. وهي وان وصلت الى اذن السامع فانها قد لا تصل الى قلبه. بعد ان شنقت بحبل العادة او التكرار. اما الكلمات المحملة بالدلالات، اي تلك التي تعني ما تقول، وتترك اثرا في نفس القائل والسامع فهي تلك العبارات الناجمة اما عن الحب او عن الكراهية، او تلك المتعلقة بمصلحة ما، ففي مثل هذه الحالات، والحالات المشابهة يصبح القائل والسامع كلاهما في ذروة الانتباه والتركيز.
تأمل مثلا كيف نلتقي ولا نلتقي، ونتعانق ولا نتعانق، لان المعنى ليس حاضرا، لا معنى للزيارة ولا معنى للقاء او العناق اذا كان يهدف الى تسجيل حضور ما تقتضيه القواعد والاصول المرعية واللباقة والمجاملة واحيانا المصلحة الشخصية. يستقبل المضيف ضيفه ويسأله عن الحال والصحة والعمل والاهل والعيال والاخوان والربع والديرة هكذا دفعة واحدة، وهو يعرف الاجابة سلفا، او لا يعرفها لكنه لا ينتظر اجابة محددة. ولو كان ينتظر اجابة محددة او خارجه عن الاطار العام للتواصل الآلي لما سأل عن كل تلك الاحوال دفعة واحدة، وبدون توقف. ويرد الآخر: (كله تمام.. وتسرك الحال.. وكل شيء على ما يرام).
وقد يكون محاصرا بالمشاكل العائلية والمالية والصحية، لكنه يجيب بآلية لايقصد بها الكذب ولا التجمل، شأنه شأن ذلك البصري الذي كتب الى ابيه رسالة يقول فيها: (كتبت اليك يا أبت نحن كما يسرك الله عونه وقوته، لم يحدث علينا بعدك إلا كل خير، الا ان حائطا لنا وقع على أمي وأخي الصغير وأختي والجارية والحمار والديك والشاة ولم يفلت غيري).
ترى أين هو الخير الذي يتحدث عنه ذاك البصري بعد تلك الكارثة المروعة؟ أذكر ان الاستاذ محمد العلي قد اشار الى هذه الحكاية الطريفة في إحدى زواياه كشاهد على تلك الآلية في استخدامنا بعض العبارات، وعلى الفرق الشاسع بين ما في رؤوسنا وما في الواقع المعاش.
تنتهي الزيارة، وقد يتنفس المضيف الصعداء لانتهائها، لان الضيف ليس مريحا، أو لأن الزيارة أتت دون موعد مسبق، لكن صاحبنا لايملك الا ان يودع ضيفه بابتسامة لا معنى لها قائلا: (شرفتنا.. آنستنا.. ومازال الوقت مبكرا.. ولا تبخل علينا بزياراتك).
كلمات عابرة، او ديكورات لغوية فقدت بفعل العادة والتكرار دلالاتها الاولى، ولم يبق منها سوى بريقها، مثلها مثل تمثال لوسيان (المبطن بأسمال بالية)، وابتسامة الفندقي، ومصافحة الدبلوماسي، وغذاء العمل، ودموع التماسيح، وولولة النادبات المأجورات، وبطاقات التهنئة التي لا تحمل توقيعا،وشعارات العسكرتاريا العربية، وخطب مندوبي بلدان الشمال المتعاطفة مع فقراء العالم في (قمة الارض).. كلما أزهار بلا أريج.
واذا كان (اللسان) لغة بلا كلام كما يقول علماء الادلة، فان هذا كله كلام بلا لغة، فلكل لغة دلالة، بما في ذلك لغة العين والاشارة وبقية انواع التواصل غير اللفظي، وبفقدان هذه الدلالة تفقد اللغة وظيفتها، كما تصبح شكلا من اشكال (الثغثغة)، او ما يسمى برغوة اللغة او زبدها الذي يذهب جفاء.
ولو فكرنا مليا في جدوى أو صدق تلك العبارات لتقلص قاموس التخاطب اليومي وضمر، بعد حذف تلك الزيادات المقولبة، والاستعارات المتصلبة التي يرى رولان بارت انها تتكرر خارج دائرة السحر والحماسة والدهشة، عبارات عقيمة لا خصوبة فيها ولا انتاجية. لا تطرق باب القلب، ولا تترك اثرا في النفس، ولا تحرك سكون الذاكرة، لكنها تقال على اية حال.