عندما تطالعك ارقام حوادث السير في البلاد، وتفيض الاحصائيات بنسبها العالية، لتقول ان الضحايا في هذه الحوادث يفوقون عددا أولئك الذين يسقطون في الحروب.. في الثلاثين السنة الاخيرة تجاوز العدد سبعين ألف ضحية حادث مروري.
وبات لكل دقيقة مصابوها وقتلاها ففي العام الواحد يسقط على الطرقات ما يزيد على اربعة آلاف صريع في مشاهد مروعة ومؤسفة.. ناهيك عما يحدث في الجانب الآخر غير المنظور آنيا، غير ان كلفته باهظة وممتدة الى اجيال واعمار، متمثلة في الجانب الاقتصادي والاجتماعي..
الهدر الاقتصادي يمكن ان تشهده في السيارات المعطوبة المحمولة الى ورش التصليح او الى محلات الخردة والتشليح. وفي الجانب الاجتماعي الانساني يفيض الحال بالمآسي التي لايستطيع الاحصاء والتقويم ان يقف عندها ويبرزها عدديا لانها غير قابلة للعد ولا للاسترداد ولا للطرح في صورة ارقام. فقط الألم والدمع والمرارة، يقولها تقصف وردة شاب وهو بعد في مقتبل العمر وما تزال الحياة على سعتها تغريه وتؤمل بالقادم الجميل وفي لحظة خاطفة يرتفع النعش وتغيب تلك الوردة ولايبقى للاهل سوى الذكرى والنحيب وصورة تجدد الدمع كلما سال خيط الذكريات.. اسر بالكامل التهمتها خطوط السير وباتوا في النسيان.. اسرة بعد ان كانت تعيش مكفولة بالكرامة وبالعيش الرغيد، اضحت في مهب الريح تتلقف اعطيات المحسنين واهل الخير.. ولاننسى المقعدين باعاقاتهم الدائمة، ذلك الذي كان ينبض بالعافية ويملأ المكان بصهيل ضحكته وارتجاج جسده مع هبات الحياة وما تطرحه شجرتها من ثمار اللهو والسعي في مناكب الارض للعمل وقطف النعم. كل ذلك لم يعد موجودا، يلزم سرير الشلل الرباعي، او على كرسي الاعاقة يتلقى نظرة العطف والشفقة وهو الذي كان مانحها..
سيرة مؤلمة وخانقة وقاسية ترشح بالدم على الطرقات وفي الاسرة بالمستشفيات. في كل ساعة تطلب التدبر والعظة والتعلم من الدروس التي هي من لحم وعصب ودم، دروس حية تهب نفسها لكل سائق لكل عابر لكل أب لكل ام. لكن ما اشق الدرس وما اصعب تعلمه.
ان احدا لا يريد ان يستوعب الدرس. ما اصاب فلان وما حاق به، ليس من الضروري ان ينتقل لي او لفلذة كبدي، انها ليست عدوى ولا زكاما. هي فقط اقدار (والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين) والعين التي (شافت) كثيرا وارعبها هول ما يحدث تصر على العمى وعلى الاغماض، العين التي تتغافل عن السرعة المحددة وتطيش القدم على دواسة البنزين تسابق احلاما لا توصل الا الى بوابة الموت.. العين التي ترخي النظر عن الاشارة الحمراء وتفتح باب المغامرة الذي لن يفضي الا الى كرسي الاعاقة..
هذه العين التي تغمض من يفتحها؟!