حكاية المتوكل مع علي بن الجهم معروفة لدى الكثيرين، وملخصها أن علي بن الجهم قدم على المتوكل من البادية،فأنشد بين يديه قصيدة قال فيها:
أنت كالكلب في حفاظك الود (م)
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمناك دلوا
من كبار الدلا كثير الذنوب
فعرف المتوكل قوة فنه وخشونة لفظه، وأنه ما رأى سوى ما شبه به بسبب ملازمته للبادية وعدم المخالطة لأهل المدن، فأمر له بدار جميلة على شاطىء دجلة، فيها بستان حسن، يتخلله نسيم عليل، يطرب النفس ويغذي الوجدان، ويتعرف ابن الجهم على حياة جديدة في بغداد ما بين الرصافة والجسر، وبعد أن أمضى ستة أشهر من الحياة الجديدة، ومجالسة الشعراء والفضلاء من أهل بغداد.. استدعاه المتوكل فحضر وأنشد:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فقال المتوكل: خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة
ستة أشهر قلبت كيان ابن الجهم، ذلك كان عصر البراءة والنقاء، في عصرنا الحاضر تبلدت الأحاسيس والمشاعر، ورحلت (الرومانسية) غير مأسوف عليها من الجميع تقريبا، باستثناء قلة يجدون أنفسهم غرباء وهم بين أهلهم وذويهم.
ما وجه الشبه بين شاعر مطبوع، وإنسان يركض وراء لقمة العيش، في عصر يطأ فيه الأقوياء الضعفاء؟ سؤال تنتفي مشروعيته مادام الإنسان هو الإنسان، وما تصنعه هي بيئته، وما تشكله هي ظروفه، وما تحدد مواقفه هي ثقافته التي يكتسبها من الحياة وليس من القراءة فقط، وعندما يملك صاحب الأمر حسا بذلك المستوى.. تتلاشى خيبات كثيرة، وتختفي إحباطات متعددة، أما عندما تصبح المادة مبررا للتجاوزات، وغاية يهون دونها سحق كل من يعترض طريق اللهاث المسعور وراء الثراء غير المشروع، فإن الأمر يصبح غير الأمر.
من من شعراء هذا العصر غير مترف؟ ومن منهم يستطيع أن يطاول قامة على بن الجهم؟ وهل نلغي الزمن وهو عامل حسم في كثير من الأمور؟ لا يعنينا هنا المصطلح النقدي عن الطبع والتطبع، ولكن يعنينا المصطلح الإنساني عن التأثير والتأثر، وهو أشمل وأعم لدرجة أنه يستوعب كل ما للإنسان أو عليه من حقوق وواجبات، بل كل ما في الحياة من خير وشر.