هل لتخصص عمارة البيئة الذي يدرس حديثا في جامعات المملكة والجامعات العالمية جذور في تاريخنا العربي والإسلامي؟ الجواب نعم, فمع كون تخصص عمارة البيئة الذي يدرس في كليات تصاميم البيئة يعتبر تخصصا حديثا مثل باقي التخصصات في تلك الكليات, إلا أنه مورس كثيرا في تاريخ الأمم والشعوب وكذلك في التاريخ العربي والإسلامي فلا يكاد يخلو كتاب للتاريخ المعماري من أن يتوقف عند ما أبدعه العرب والمسلمون من حدائق ألحقت بالمساجد أو بالقصور, فعلى سبيل المثال في مدينة غرناطة الإسبانية شيد العرب المسلمون حدائق قصر الحمراء, تلك الحدائق البديعة التي يزورها الملايين من السياح سنويا التي زرتها لأول مرة أثناء سنوات دراستي الأولى في مرحلة البكالوريوس, وأحسست أثناء تلك الزيارة بأن القصر وحدائقه مثل كثير من الآثار العربية في إسبانيا تنتمي لحضارة الإسلام الأصيلة.
لقد كانت حدائق الحمراء سواء في العصر الإسلامي أو حتى في عصرنا هذا, مصدر إلهام للشعراء ولكل من زارها حتى أولئك الذين لا يستطيعون فك طلاسم النقوش التي على جدرانها, تلك النقوش التي تؤكد الحاكمية لرب العالمين (لا غالب إلا الله) وتزدان في بعض جنباتها بأشعار (ابن زمرك) التي خلدت أحاسيس الشاعر في كلمات رائعة ومعبرة.
أوجه الجمال في هذا القصر عديدة ولكن لنقصرها على تلك ذات العلاقة بتخصص عمارة البيئة فإن شئت فتحدث عن برك الماء ذات الهدف الجمالي والعاكسة لزرقة السماء على صفحة الماء, ومن ثم عرج على تقنيات النوافير النافثة للماء باستخدام القنوات التحت أرضية ومساعدة الجاذبية الأرضية (لاحظ أن ذلك كان في عصور الظلام الأوروبية!! العصور الوسطى) مرورا بالتداخل المبدع بين غرف القصر والأفنية, حيث التناغم بين الداخل والخارج مع توفير أقصى خصوصية ممكنة, إلا الإطلالة الفريدة من القصر الواقع فوق ربوة مرتفعة على أحياء مدينة غرناطة. وإن شئت فحلق إلى شرق العالم الإسلامي, ومع كتب تاريخ العمارة, إلى الهند حيث قامت حضارة إسلامية أخرى هي حضارة المغول الذين أقاموا العديد من الحدائق الرائعة المطلة على وادي كشمير من على سفوح جبال الهمالايا, مستثمرين توافر المياه في عمل المساقط المائية والنوافير, وهم الذين أقاموا تاج محل بحدائقه الجميلة والتي أذهلت أحد مفكري الغرب فوصفها بقوله: فلينقسم الناس على هذا الكوكب إلى فريقين: أولئك الذين شاهدوا تاج محل, وأولئك الذين لم يشاهدوه!
وليست هذه إلا بعض الأمثلة لممارسة هذه المهنة تاريخيا, وهذه الأمثلة إنما تعبر عن الحدائق فقط وما هي إلا جزء بسيط من اهتمامات مهنة عمارة البيئة المعاصرة, التي ليس لها حدود, فهي تبدأ من التخطيط البيئي على مستوى شامل قد يغطي مساحة إقليم كامل مرورا بتخطيط المواقع المتوسطة المساحة وتنتهي بالتصميم للمساحات الأصغر.