لا شك في ان قضية العلاقة الحتمية فيما بين الحضارات والتي رأى البعض فيها (صراعا) ورآها اخرون (حوارا) تعد بلا ادنى شك واحدة من ابرز واهم القضايا التي تفرض نفسها اليوم على النخب الفكرية والسياسية في العالمين العربي ـ الاسلامي والغربي وذلك نظرا لما تمثله من الاهمية وبالذات في ظل الظروف الدولية الراهنة التي يمر بها عالم اليوم, ولعل تخصيص الامم المتحدة للعام الحالي كسنة (حوار للحضارات) هو دليل واحد من ادلة عدة على ما نقول...
...ولعل ما زاد من تعقيد المسألة عموما هذا الجدل الاكاديمي الذي اخذ ابعادا مختلفة ولم يحسم ولا اظنه سيحسم مالم تغلب روح الموضوعية والتسامح الديني والفهم الواعي لرسالة الاديان على عقليات هؤلاء البعض.
....فهذا الامريكي (صامويل هنتجتون) يرى ان هناك (صراعا حضاريا) لم يغب بعد داعيا الى (حوار حضاري) يضيق من هوة هذا الصراع..
... وهذا الياباني الاصل الامريكي الجنسية (فوكوياما) يحسم الصراع تماما في كتابه (نهاية العالم) لصالح الايديولوجية الليبرالية.
... وبين رأي هذا وذاك تتصارع الافكار وتتضارب الرؤى والنتيجة دائما صراع يؤجج الاوضاع القائمة ويعمق روح الكراهية والبغضاء بين الديانات السماوية التي ما نزلت الا لاشاعة روح التسامح والمحبة بين ابناء هذه المعمورة جمعاء.
... يخطئ كثيرا من يعتقد ان قضية الحوار بين الحضارات هي وليدة الاحداث التي تلت الحادي عشر من سبتمبر فالدعوة الى الحوار بين الحضارات تعود في جذورها الى مطلع الستينيات وبالتحديد غداة اننتقاد الجمع الفاتيكاني الثاني عندما دعي البعض الى قيام (حوار بين الحضارات) خصوصا بين الديانتين الاكثر انتشارا:.. الاسلام والمسيحية انطلاقا من دعوة العالم اللاهوني الالماني هانس يونج Hans Young بانه (لن يكون هناك سلام بين الامم مالم يكن هناك سلام بين الاديان ولن يكون هناك سلام بين الاديان ومالم يكن هناك حوار بين الاديان) الا ان تلك الدعوة سرعان ما اصيبت بالتعثر بعد ان تكشف للجميع ان وراء الاكمة ما وراءها فقد حاول بعض القوى داخل الكنيسة البابوية ومن سار في ركابها من بعض المسلمين الذين لم يعوا الامر بعيون مفتوحة ان يكون الحوار دينيا لاهوتيا فانكشفت النوايا وكان الفشل الذي قضى على المشروع برمته قبل ان يبدأ.
...وفيما يلي عدا بعض دعاوى خجولة حاولت احياء فكرة (الحوار بين الحضارات) نستطيع القول ان حقبة (الحرب الباردة) هي الفترة التي خبأت فيها الى حد كبير تلك الدعوة لا لشيء سوى ان الليبراشلية الغربية المدعومة بتيار من كبار المتشددين من اليمين المسيحي قد وجدت في (الايديولوجية الشيوعية) عدوها الاوحد وبالتالي فقد قوبلت كل طروحات الزعيم الشيوعي ليونيد برجنيف بالدعوة الى (التعايش السلمي) بريبة وشك لم ينتهيا الا بنهاية الحرب الباردة.
...ثم جاءت التحولات التي شهدها العالم بدءا من سقوط جدار برلين عام 1989, ثم انهيار القطب الاخر في النظام الدولي المتمثل في انهيار الاتحاد السوفيتي خلال فترة اوائل التسعينيات وما تلاها من محاولة الولايات المتحدة ان تفرض هيمنتها على العالم من خلال طرح مفهوم (النظام العالمي الجديد) الذي طرحه جورج بوش الاب خلال فترة رئاسته الاولى والاخيرة متزامنا مع ظهور (العولمة) كمفهوم ليبرالي مدعوم بأيديولوجية سياسية يمينة تريد فرض سيطرتها على العالم من خلال البحث عن (عدو) حتى وان كان ذلك العدو من بنات افكارهم وتخيلاتهم فكان (الاسلام) هو الهدف والضحية.
... يخطئ كثيرا من يعتقد ان الصورة (السلبية والهمجية) التي رسمتها وروجت لها الكنيسة الغربية عن الاسلام طوال القرون الوسطى قد اختفت على الاطلاق وان روح التسامح قد فرضت نفسها على عقليات البعض من المفكرين والقساوسة المسيحيين في عالم اليوم فلقد برهنت دراسات ومقولات اولئك البعض على ان تأثير تلك الصورة في الذهنية الاوروبية لا يزال مستمرا حتى اليوم.
...لن نخوض هنا كثيرا في مجال المقارنة بين المفكرين السياسيين الاسلاميين والغربيين ابان تلك الحقبة وان كان ذلك لا يمنع من التذكير فقط إلا انه في الوقت الذي نزل فيه الفكر الكنسي بالانسان الى الحضيض ممتهنا كل قدراته العقلية سمت اطروحات المفكرين السياسيين الاسلاميين كالفارابي وابن خلدون.. وغيرهما بالانسان الى اعلى مدارك السمو..
ومع ذلك فالاصوات التي مافتأت تنعق بالكراهية مفرقة فيما بين الاديان مشيعة كل مظاهر الفرقة وازدراء الآخر والنيل من توجهاته العقائدية لا تزال هناك ولا يزال لها ـ لشديد الاسف ـ صوت مجلجل يلقى آذانا صاغية من قبل الكثيرين.
فهذا هو القس (جيري فالويل) كمثال ليس الا على رأي الكثيرين من المتشددين من اليمين المسيحي يصرح في مقابلة مع موقع ديني على الانترنت بان (العقيدة الاسلامية تدعو للحقد) واصفا رسول هذه الامة صلى الله عليه وسلم بصفات تأبى الحروف ان تعيدها ليس لقبحها فقط, وانما بعدها عن ادنى مقومات الادب في التعامل مع شخص ارسله المولى رحمة للعالمين شاء (جيري فالويل) ام ابى..
... واذا ماعرفنا ان ذلك القس يمثل ما مجموعه 16 مليون انجيلي امريكي من الطائفة العمدانية ادركنا مايكتنف سير الدعوة الى حوار بين الحضارات من مصاعب وعقبات. الى هنا نفترق ـ عزيزي القارئ ـ مع وعد بلقاء قادم نستكمل فيه حديثنا عن هذا الموضوع فالى ذلك الحين لكم مني اطيب المنى.
وعلى الحب نلتقي