الحديث عن ذاتية الكتابة او الكتابة الذاتية تختلف من كاتب الى آخر, لكنها في أغلبها تتجه الى منحيين مهما كانت غارقة في الذاتية التي لا يستسيغها بعض القراء, المنحى الأول يتمثل في الاغراق في التعبير عن الاعجاب بالذات وذكر حسناتها والتركيز على الجوانب المضيئة من انجازاتها تعبيرا عن (الأنا) بشكل يميل الى الغرور والمبالغة في الاعتداد بالنفس حيث يكثر استعمال كلمة (أنا) بين سطر وآخر مما يحيل العملية الإبداعية او حتى الكتابات العادية الى سرد ممل لانجازات وهمية مبالغ في طرحها وتضخيمها حتى وان كان لها نصيب ضئيل من الصحة.. فمثل هذه المبالغة في اظهار وتلميع الذات ليس مقبولا لدى الكثيرين ممن يجدون في متابعة مثل هذه الكتابات مضيعة للوقت والجهد.
المنحى الثاني للكتابة الذاتية هو تلك التي تحاول الخروج من (الأنا) الى الدائرة الأوسع التي تشمل الآخرين ولا تتحدى مشاعرهم فيتحول الهم الشخصي الى هم عام من خلال الخروج بالذات الى ما هو أعم وأشمل من الدائرة الذاتية, وبالأسلوب الرائع الجميل ينتقل الكاتب من الخاص الى العام ليصبح الخطاب خارج إطار الذاتية الممقوتة.. ويتحول ما هو ذاتي ممقوت الى ما هو عام يهم الجميع فيهتمون به, وقد استطاع كثير من الأدباء والكتاب الاستفادة من تجاربهم الذاتية التي لم ينظروا اليها بمنظار ذاتي ولم يسجنوها في قمقم الذاتية الممجوجة ولكنهم انطلقوا بها الى ما هو أعم وأشمل من ذلك مما يعني جميع القراء, الذين يجدون فيه صدى لتجاربهم الذاتية بما فيها من هموم وافراح وبما فيها من آلام وآمال.
لقد فتن بعض الأدباء او الكتاب بذكر أمجادهم الشخصية فما ان يتناولوا موضوعا حتى يسارعوا الى اقحام بطولاتهم في ثنايا ذلك الموضوع مهما كان بعيدا عن تلك البطولات, وهم لا يوفرون فرصة تتاح لهم إلا وانحرفوا عن جادة الحديث الى التباهي بما حققوه على هذا الصعيد او ذاك.. وفي هذا ما فيه من استهتار بالقارىء او المستمع, وفي المقابل فان هناك من الأدباء والكتاب من استطاعوا تطويع تجاربهم الذاتية لتقديم الإبداع الرائد والفكر الأصيل والرأي السديد, فاستفادوا من تلك التجارب وأفادوا.. احترموا وعي القارىء فاستحقوا احترامه بجدارة.
ان استغلال المنابر الإعلامية للحديث عن الذات الغارقة في (الأنا) لن يخدم قضية ولن يقدم فكرا جديرا بالعناية اذ يطغى الاعتداد بالنفس على الأهداف المرجوة من الكتابة.. وهي أهداف تؤدي الى تحقيق المتعة والفائدة للقارىء والاصلاح والتنوير لذلك القارىء الذي يحرص على انتقاء مطبوعته كما يحرص على اختيار الكاتب الذي يخدم وعيه ولا يستهين بفهمه.
ان بروز ظاهرة الحديث عن الذات لدى أي أديب او كاتب لا يعني سوى انه مقدمة لسقوطه المدوي بعد ان يلقن درسا لا يمكن نسيانه وذلك الدرس يعني ان الأدب ليس طريقا للشهرة ولكنه طريق لكل ما هو جميل ورائع وإنساني حيث تغنى (الأنا) لخدمة هذه المعاني الجميلة في حياة الناس.. كل الناس.