الفأر والسنور وبينهما ناثر:
اقترح الشاعر ابو البحر جعفر الخطي ت (1028) على متشاعر مجموعة من المهن منها البيطرة, ومنها (الأتانة) اي مهنة العناية بالحمير, اذا صح هذا الاشتقاق, وجاء اقتراحه على هذا النحو: (او عالج الأتن في ادوائهن وكن شروى ـ خميس بن خضاموه ـ بيطارا! ) وكان الخطي مخلصا في اقتراحاته, وان اشتم القارئ منها رائحة السخرية, فتلك مهن يمكن اكتسابها بالتعلم, اما الشعر فانه موهبة قبل ان يكون صنعة, اي ان الشاعر لا يوجد بالقوة ولكن بالفعل. ولو ادرك ابو البحر عصر قصيدة النثر, لاقترح على الرجل ان يجرب حظه, شأنه شأن بقية خلق الله الذين عبروا تلك البوابة المفتوحة على مصراعيها دون مزاليج واقفال او رقباء وحراس.
وهو الاقتراح الذي طالما اقترحناه على كل من يظن النظم شعرا, ومن لا يفرق بين النظم والنثر المسجوع, ومن لا يعرف الفرق بين بحر الكامل وبحر قزوين, او بين تقطيع الشعر وتقطيع اوصال المفطح.
لكن يبدو ان للشعر سحره الخاص, ولذلك يبدد بعضهم العمر كله في نظم شعر فاتر, ظنا منهم ان الشعر يكتسب بالتعلم. والشعر الفاتر اسوأ انواع الشعر حسب نظرية ابي العنبس القائلة: (ان قدرت ان تقوله - اي الشعر - جيدا.. جيدا.. والا فليكن باردا.. باردا). يعرض عليك احدهم احيانا محاولة طالبا منك تشذيب نتوءاتها, وجبر ما انكسر من اوزانها, ورتق ما فتق من نحوها, فلا تجد مدخلا للتهذيب, ولا كوة للتشذيب, الا ان تنسف النص بأكمله وتقيم مكانه نصا آخر لا يمت للاول بصلة.
تنقل لنا كتب التراث حكاية طريفة لرجل دخل على سيف الدولة يهنئه بانتصاره في احدى غزواته, وهو شكل من اشكال الشحاذة المقنعة. واراد الرجل ان يرفع من شأن سيف الدولة ويقلل من شأن اعدائه, فتفتقت عبقريته الفذة عن هذا البيت:
فكانوا كفأر وسوسوا خلف حائط.. وكنت كسنور عليهم تسلقا !. ومع انني اعتبر هذا البيت باردا بمقاييس ابي العنبس سالفة الذكر, الا ان تلك الصورة الكاريكاتورية المضحكة قد اغضبت سيف الدولة, وبدلا من ان يصيح: (ليمتلئ فمه ذهبا), كما جرت العادة, امر باخراجه من المجلس. اما المفارقة التي تفجر الضحك فهي ان يجرؤ صاحب (الفأر والسنور) على قول مثل هذا الكلام في حضرة رجل يصغي بين حين وآخر الى روائع المتنبي (مالئ الدنيا وشاغل الناس). وكيف يرضى ان يكون سنورا يصطاد الفئران
من لا يرى ظفرا حلوا سوى ظفر.. تصافحت فيه بيض الهند واللمم
كما يعبر المتبني؟ او كيف يرضى ذلك من يقول عنه ابو الطيب:
(اذا اعتل سيف الدولة اعتلت الارض.. ومن فوقها والبأس والكرم المحض). وكيف يلوث سمعه بسقط القول من اعتاد الاصغاء الى ابداعات الشعراء المبدعين؟ نعود الى صاحب الفأر والسنور الذي اخرج من المجلس بعد تلك الرائعة السنورية.. يقول الراوي ان الرجل قد قام على الباب يبكي بكاء مرا, فاخبر سيف الدولة ببكائه فأمر برده, وسأله: ما لك تبكي؟ فقال: (قصدت مولانا بكل ما اقدر عليه, فلما خاب املي وقابلني بالهوان ذلت نفسي فبكيت). فقال له سيف الدولة: ويلك! من يكون له مثل هذا النثر يكون له ذلك النظم!! وهذا هو بيت القصيد, فاذا كان بامكان المرء ان يكون ناثرا مبدعا, او بيطارا بارعا مثل (خميس بن خضاموه) فلماذا يتطفل على موائد الشعر؟
نفثات نورس مصدور:
وقصة الفأر والسنور تلك تقودنا الى ملحة اخرى من ملح الشعراء والمتشاعرين! لكن عنوانها (النورس) فقد تشابهت بعض الاصوات الشعرية في مرحلة الثمانينات حتى صارت تشكل جوقة شعرية واحدة, تشابه في القاموس الشعري, تشابه فيما سمي بالايقاع الداخلي, تشابه في المضامين, تشابه في نبرة الشكوى والتململ الطاغية على غالبية النصوص, حيث لم تستطع بعض الاصوات الخروج من العتمة, او التخلص من دور النادبات. والاشارة, بين حين وآخر, الى زوايا الجمال وشرفات الفرح. فالادب ليس وصفا تسجيليا لبشاعات الواقع على الدوام, لكنه انتشاء بزخات الفرح قبل ان تتوقف, وتكحيل العين بشمس الجمال قبل أن تأفل. يشير نيرودا في مذكراته ان كتاباته في فترة المراهقة ليست سوى شكل من اشكال التذمر والشكوى المتلفعة بالحزن, وقد لاحظ ان هذه النبرة هي المسيطرة على غالبية الكتابات في سن المراهقة. وكنت والزميل القديم سمير الفيل نناقش ذات يوم مسألة تشابه مفردات القاموس الشعري لتلك المرحلة, ذلك التشابه الذي يحول بيننا وبين تمييز هذا الصوت من ذاك. فذكر الفيل مفردة (النورس) التي حرص كثير من شباب تلك المرحلة على زجها في النص بأي ثمن, حتى اصبحت النوارس تملأ فضاء القصائد, بما في ذلك قصائد اولئك الذين لم يروا النورس في حياتهم. وعلقت على ذلك قائلا: لكنه كان باستمرار نورسا تائها منتوف الريش, مكسور الجناح, حسب قاموس النادبات الحزين, بدلا من ان يكون نورسا خارجا على السرب, او خارجا من جاذبية الحزن. ولكي نخرج من جاذبية الحزن اتحفني الفيل بحكاية شاعر شاب ذهب بديوانه الى احد النقاد الكبار, لكي يستأنس برأيه. وتصفح الناقد الديوان, قصيدة تلو الاخرى. ثم توجه الى الشاعرالشاب قائلا: (وانته ما عندكش نوارس ليه يا ابني؟).
ثقافة النفايات:
لكن لماذا يتزاحم الناس على موائد الشعر, مع ان الشعراء والمتشاعرين لن يجدوا مثقال ذرة من المجد الذي تحققه مغنية تحشرج بالغناء, او ممثلة درجة ثالثة, ناهيك عن كبار المغنين والممثلين ونجوم الرياضة الذين تلاحقهم الاضواء والاموال.
ويكفي ان نتابع ما تبثه وسائل الاعلام المختلفة من مفارقات لندرك هذه الحقيقة.
ومؤخرا عرضت احدى المحطات الاذاعية بمدينة اتلانتا الامريكية في المزاد العلني سندوتشا التهمت نصفه المغنية والممثلة (ماريا كاري). وقد وضعت بقايا هذا السندوتش الذي يتكون من لحم الديك الرومي, مع السلطة والمخللات داخل صندوق السندوتشات, وذكرت صحيفة (دي ميرور) ان الفائز بالعطاء سوف يتسلم كذلك مدية من البلاستيك كان يستخدمها احد معاوني الفنانة لمعاينة السندوتش. وحذرت المحطة المستمعين من اعتبار ذلك طعاما صالحا للاكل ولكنه صالح لهواة جمع المقتنيات.
ولا ادري كيف فات على المحطة ان تطرح في المزاد العلني على هواة جمع النفايات المنديل الورقي الذي استخدمته (ماريا كاري) لتنظيف انفها الاقنى.
ماريا كاري هذه فنانة من اصول امريكية لاتينية, شأنها شأن بورخيس الذي ينتمي الى تلك الجذور, لكنها بالتأكيد اكثر شعبية وشهرة من الكاتب الارجنتيني.
ويقينا لو عرضت المحطة في المزاد العلني نصا لبورخيس بخط يده لما استطاع ان ينافس السندوتش المقضوم. يقول مؤلف سيرة بورخيس عن نص له بعنوان (الاعمى) ان هذا النص يحدد خطوط ذلك العالم الذي لا شمس فيه. واذا تجاوزنا التفسير الحرفي للنص.
فان هذا الكاتب يتحدث عن عمى من نوع آخر. قد يكون ذلك العمى ثقافيا, وقد يقود الى سقطات اهونها سقطة المزادات العلنية للسندوتشات المقضومة. يتحدث النص عن الشارع الذي (يخفي انهدامات وحفرا كالكمائن.. وكل خطوة نخطوها يمكن ان تكون سقطة). الدنيا مليئة بالمضحكات والسقطات والطفيليات التي تنمو على هامش الادب والفن, ولن يكون آخرها ذلك المزاد العلني لسندوتش ماريكا كاري.