لا يستخطيع احد ان يحدد ـ على وجه الدقة ـ الطريق التي سيسير فيها في المستقبل او الوجهة التي ستتجه اليها سفينة حياته, فقد بدأ عبدالله المطرود غواصا كما الآباء والأجداد.. كان عليه ان يستمع الى أبيه ورفاقه وهم يحكون كل ليلة عن الأحلام والآمال والصيد المراوغ والرزق الوفير وكان لا بد ان يخرج مع العائلة الى البحر.. لم يكن بمقدوره ان يتخلف عن هوى الأهل ومصدر رزقهم في وقت لم يعرفوا فيه مهنة أخرى غير الغوص والصيد والبحث في أعماق الخليج العربي عن أسرار اللؤلؤ الفريد وهو صبي صغير أصر أهله على وجوده معهم في رحلات الصيد بعد ان رزقهم الله برزق وفير في المرة الأولى التي ذهب فيها معهم الى البحر, لم يستهويه الغوص كثيرا, لكنه تعلم منه في هذه المرحلة المبكرة من حياته, الصبر والمثابرة والإصرار والتحدي وان عليه ان يعمل وان يعمل باخلاص وصدق وينتظر الرزق من الله, الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا.
وهو في رحلات الصيد كان يسمع نداء قلبه.. لماذا لا يجرب حظه في مجال آخر ويقتحم منطقة أخرى؟ ولماذا لا يثبت وجوده بعيدا عن هوى الآباء والأجداد؟ ولماذا لا يضع بصمته الخاصة في ميدان آخر ويطرق منطقة أخرى ويجرب عملا مختلفا.
رأى عبدالله المطرود الرجال ينطلقون كل صباح الى أعمالهم بعضهم يعمل في الزراعة, وبعضهم يعمل في الميناء وبعضهم لا يعرف هو ماذا يعملون, ولكن المهم أنهم يعملون, فالعمل ـ في حد ذاته ـ قيمة كبيرة وهو الذي يساعد الإنسان على اثبات وجوده والاحساس بدوره في الحياة وان يبني نفسه وأسرته بالاصرار والجهد والعمل الشاق.
مرة أخرى تظهر أرامكو في الصورة, هي الحلم الذي داعب خيال جيل المعاناة والتحدي والرغبة الصادقة في اثبات الوجود.. لم يحالفه التوفيق من الدخول الى أرامكو.. صدمه عدم تحقيق حلمه ولكنه لملم احزانه وأدرك ان رحلة العمل والمعاناة قد بدأت.
في الظهران عمل في وظيفة بسيطة لمدة خمس سنوات وقدم درسا بليغا على ان العمل ـ مهما كان بسيطا ـ يكشف معدن الإنسان ويجد قدرته على التحدي وإثبات الذات وتحمل المسؤولية.
وبعد ان رفض صاحب العمل ان يعطيه اجازة لمدة يوم واحد ترك العمل ـ او اضطر الى تركه ـ واستغل خبرته السابقة ليتشارك مع احد موظفي أرامكو مغسلة ويفتح في الظهران وظل لمدة عامين كاملين يبذل جهدا كبيرا ويعمل لساعات طويلة حتى يكون لديه رصيد كبير من الزبائن واستعان بعمال لمساعدته وبعد عامين تحول المحل الصغير الى مغسلة كبيرة في الحي السعودي في الظهران قبل ان يؤسس المغسلة الوطنية في الخبر ويحقق نجاحا لافتا في هذا المجال بسبب الاخلاص والتفاني والصدق مع النفس ومع الآخرين.
اتجه عبدالله المطرود الى مجال آخر.. قرر ان ينشىء أول مصنع للألبان في المملكة وهو المصنع الذي تأسس في الخبر عام 1966م.. كانت البداية سؤالا قصيرا هو: لماذا نستورد الألبان؟ وبدأ ـ على الفور ـ في تنفيذ فكرته رغم المعارضة التي وجدها من أناس كثيرين رأوا ان المناخ الحار في المملكة لا يتناسب وطبيعة مشروع للألبان.
على امتداد السنوات توسع المصنع وارتفعت طاقته الانتاجية وازداد عدد عماله ووصل انتاجه الى كل المنطقة الشرقية ثم الى الرياض وجدة وعدد من دول الخليج العربي والدول الأخرى.. لقد نجح المشروع بسبب جدة الفكرة وتميزها ولأن الألبان سلعة مطلوبة ولأنه أتى بالألبان من المزرعة التي يمتلكها. ثم فكر في انشاء مشروع كبير لتربية المواشي من أجل انتاج اللحوم الحمراء لتقليل عمليات استيراد اللحوم من الخارج. مرة أخرى يستثمر عبدالله المطرود ما تعلمه من الغوص.. ان يتجاوز السطح ويصل بنظرته العميقة الى القاع فيقرر ان يرتاد منطقة أخرى وينشىء أول مخبز آلي في المملكة ينتج الخبر بأنواعه المختلفة وبمستويات تضارع المستوى العالمي وقد تفوقه والذي وصل انتاجه الى الرياض وجدة والكويت. وخلال مشواره الحافل ادرك الرجل ان العطاء سر النجاح وان للوطن الغالي في اعناقنا يد سلفت ودين مستحق.
وان هذه الأرض الطيبة التي اعطتنا الكثير تنتظر منا الكثير جهدا وعملا وعطاء واخلاصا. ويرى ان واجبنا وواجب كل المخلصين ان نساهم في تعزيز مسيرة الاقتصاد الوطني معتمدين على الله ثم على عملنا وانتاجيتنا وخبراتنا وسواعد أبنائنا وان نتيح فرص العمل للكفاءات الوطنية القادرة على مواصلة الرحلة وبذل الجهد والعرق حتى يجنوا حصاد عملهم وجهدهم. ويرى ان الدولة قدمت كل ما تستطيع.. قدمت الدعم والخبرة والتشجيع والمؤازرة. ونحن مدينون لها بكل ما حققناه من نجاح وواجبنا ان نعمل بصدق واخلاص حتى نرد لوطننا بعض دينه علينا.