كل رب اسرة يحرص حرصا شديدا على بقاء خصوصيات بيته في حصن حصين، ولا يسمح لاحد ان يطلع عليها بأية حال، بل انه ربما يعاقب ابناءه حين يتفوهون بكلمة تفصح عن شيء من ذلك، ولكنه في ظرف من الظروف يجد نفسه مدفوعا لمصارحة اهله بحزمة من هذه الامور التي ربما خفيت عن بعضهم، او انهم على علم بها، ولكنهم كانوا يتهيبون من ذكرها او مناقشتها.
وهذا ما يحدث في اي مجتمع، فان مداراة المشكلة الاجتماعية ـ احيانا ـ اذا كانت في مهدها، او انها لاتزال تمثل مشكلة افراد، ومحاولة علاجها بصمت هو عين الحكم، فقد قيل: اميتوا الباطل بتركه، وكان ذلك واضحا في علاج مشكلة المخدرات في بلادنا على سبيل المثال، فان التعريف بها والحديث عنها للتحذير منها كان في بداية امره مرفوضا، حتى لايزداد جمهورها، ولكن حين تفاقمت المشكلة، واصبح الشباب والفتيات يقعون في شباكها بسبب جهلهم بها، اصبح من الضروري الكشف عن انواعها، واقامة المعارض والحملات والبرامج التلفازية المحذرة من آفاتها، ولا بأس ان نقول بصراحة ان بلادنا مستهدفة من اعدائنا لتوريط جيلها الناهض في هذه الآفة الخطيرة المقعدة عن كل عمل ذي قيمة.
ومرض الثلاسيما، وامراض الدم الوراثية، بقيت سنوات وهي تدب في المجتمع كالحية الرقطاء دون ان يعلن عنها، فاذا نهض منا من يعلن عنها، ويؤكد خطورتها فان عمله ـ حتما ـ ليس ضد سمعة الوطن، بل انه يسعى الى انقاذ الوطن من خسائر بشرية ومالية فادحة، وينقذ مستقبله ـ باذن الله ـ من تفاقم هذه المشكلة.
وقل مثل ذلك في مشكلة الفقر، فقد بقيت بلادنا سنوات متطاولة تعمل بصمت لمعالجة مشكلة الفقر، وجمعيات البر الخيرية ليست وليدة اللحظة او الحدث الاخير، بل هي تقوم الى جانب ادارة الضمان الاجتماعي بواجب عظيم منذ عشرات السنين، وينبغي الا نقلل منه حتى ولو وجدنا منهم عدم القدرة على العلاج التام، فالمشكلة اكبر من جهود محدودة.
ولكن الاحوال العامة التي تعيشها بلادنا ـ كغيرها ـ في ظل المتغيرات العالمية الرهيبة من الجانبين السياسي والاقتصادي، وقصور سوق العمل عن استيعاب جميع الايدي الراغبة في العمل، الى جانب توارث الفقر، وسقوط ولي امر الاسرة في براثن مرض مقعد، او حادث قاتل، او في السجن، كل ذلك يصنع كل يوم نماذج جديدة للفقر تحتاج الى علاج.
وهكذا تأتي زيارة صاحب السمو الملكي الامير عبدالله بن عبدالعزيز لنماذج من بيوت الفقراء في العاصمة في موعدها المناسب، ليكشف النقاب عن مشكلة قديمة جديدة، اطلت من وراء الابواب الموصدة، ليقول الامير النبيل بكل صراحة: اننا لا نغض الطرف عن مشكلاتنا، بل نبحث عنها لنوجد لها الحلول، والامير عبدالله هو رجل الحلول الجذرية القوية، لا يخدع شعبه، ولا يؤجل الحل، بل ان فعله يتسابق مع قوله، فعلى الفور اعلن عن صندوق معالجة الفقر في المملكة، وعلى الفور كان هو اول المتبرعين بمبلغ سخي، ليقول للذين يكنزون الذهب والفضة ويبخلون بها عن اهلهم وذوي ارحامهم.. حتى متى تظل البنوك هي المستفيد الوحيد من ملايينكم؟
ان مصارحة المجتمع يجب ان تكون في هذه المرحلة الواعية من عمر الامة على مستوى نضجها، فما عاد هناك مجال لتغطية المشكلات خوفا من ان نتهم بان عندنا نقصا في كذا، واننا نشكو من كذا، فنحن دولة في منظومة دول تعيش ظروفا واحدة، والفقر والمخدرات والجريمة وكل الامراض الاجتماعية موجودة في كل المجتمعات بلا استثناء. وامريكا التي تضغط على دول العالم بمساعداتها المليارية لاتزال تعاني مشكلة الفقر، وهناك ملايين البشر يعيشون فيها تحت مستوى خط الفقر، ويـأكلون من صناديق النفايات.. ولكن لكل مصارحة للمجتمع زمنا محددا، وسياسة مرسومة، وهدفا منشودا، لنحقق بالمصارحة ما نسعى اليه من اصلاح شامل لكل مشكلاتنا.