جاءت ميزانية الدولة لهذا العام مبشرة في كثير من مخصصاتها حيث استمرت الحكومة كما هو الحال في العام المنصرم بتوجيه عنايتها الخاصة بالقطاعات التنموية التي لها ارتباط مباشر بالمواطنين مثل التعليم والخدمات الصحية والخدمات البلدية والزراعة والمياه والصناعة وغيرها حيث بلغ نصيبها هذا العام 50% من المصروفات المعتمدة مقارنة بالعام المنصرم والتي لم تتجاوز 43% بالرغم من ان المصروفات المتوقعة لهذا العام والمقدرة بـ 209 مليارات ريال تقل عن المنصرف الفعلي للعام الماضي بـ 16 مليار ريال, ولكن بقي واحد من المؤشرات التي افصحت عنه الميزانية واصبح يثير اهتمام الكثير من المراقبين الا وهو عجز الموازنة المستمر والذي يصب في تنامي حجم الدين العام وهو بلاشك مؤشر سلبي على اقتصادنا المحلي, وقد كثر الحديث عن هذا الدين خلال السنوات القليلة الماضية فهناك من يحاول الحديث عنه كحالة اقتصادية طبيعية تتعايش معه كل الدول وهو مصدر ايرادي مؤقت تلجأ اليه الحكومات لدعم عجلة التنمية في الظروف الاقتصادية غير المواتية, بينما هناك البعض الآخر الذي ينذر ويحذر من العواقب الوخيمة لتنامي الدين العام ويدعو لوضع السياسات المناسبة ليس لايقاف نموه فحسب بل والعمل على التخلص منه حتى ولو كان ذلك من خلال اعتماد موازنات تقشفية لعدة سنوات قادمة, والسؤال هنا ما مقدار هذا الدين العام على الدولة وهل هو دين داخلي او خارجي؟ وهل يمثل مصدرا حقيقيا لقلق المراقبين والمواطنين؟ وما المعدلات التي ينبغي الا يتجاوزها ضمن المعايير الاقتصادية المقبولة؟ وما السياسات التي قد تكون مناسبة للحد من مضاعفات الدين العام على اقتصادياتنا؟
في البداية اود التأكيد انني لست اكثر من مواطن يحاول فهم مدلولات مؤشرات الميزانية العامة على الحياة العامة وبالتالي فقد يكون دوري منصبا على اثارة التساؤلات وليس اقتراح الحلول والتوصيات فذلك من اختصاص الاقتصاديين ومسئولي الدولة, ان محاولة فهم هذا الدين يتطلب العودة لتاريخ بداية ظهوره وتطوره, فمن الاحصاءات المالية يمكن ملاحظة ان اول ظهور حالة عجز في ميزانية الدولة قد حدث عام 1977م وقد بلغ انذاك 39ر7 مليار ريال ولكن ونظرا للوفورات في ميزانيات السنوات التي سبقتها والتي تلتها فقد كان من اليسير استيعاب مثل هذه العجوزات التي بدأت تبرز بصورة متتالية منذ العام 1983م, ولكن البداية الفعلية لظهور الدين العام قد حدثت في العام 1989م حث بلغ انذاك 7ر9 مليار ريال, ثم جاءت احداث غزو الكويت عام 1990م لتسجل ميزانية الدولة فيها اكبر عجز لها وقد بلغ 160 مليار ريال, واستمر الدين العام في التنامي حتى وصل حسب تقدير معالي وزير المالية والاقتصاد الوطني في تصريح له في العام الماضي - الى 630 مليار ريال بنهاية عام 2001م, وهذا يعني ان الدين العام قد يبلغ بنهاية العام المالي الحالي 700 مليار ريال ولو استمر الحال ضمن هذه المؤشرات فسيبلغ هذا الدين اكثر من 1000 مليار ريال بنهاية عام 2010م. ان احتمال بقاء الدين العام بل وتناميه لسنوات قادمة سيؤدي الى العديد من المضاعفات السلبية المقلقة فمنها ما يتعلق بتكلفة خدمة هذا الدين والعبء الذي يشكله على الميزانية العامة, فقد اشارت بعض المصادر الى ان خدمة هذا الدين تكلف الدولة 27 مليار ريال/ السنة وهذا يمثل 13 بالمائة من ميزانية هذا العام التي تستهلك اجور الموظفين ما نسبته 62 بالمائة وهذا سيؤثر - حسبما هو ملاحظ - على قدرة الدولة على تمويل برامجها التنموية التي تتزايد الحاجة اليها مع النمو السكاني المطرد, ومن هذه المضاعفات التي تترتب على تجاوز الدين العام لحجم الناتج المحلي كما هو الحال في هذا العام الذي قدر حجم الناتج المحلي فيه بـ 8ر643 مليار ريال حسب الاسعار الثابتة فقد يؤدي ذلك الى تراجع دور القطاع الخاص في دفع عجلة النمو والتطور الاقتصادي وبالتالي عدم توافر فرص العمل وعدم القدرة على زيادة الصادرات وتحسين الميزان التجاري مع الدول الاخرى, ومثل هذه المضاعفات لابد ان تكون مقلقة للمسئولين والمواطنين على حد سواء وتستلزم تضافر الجهود للخروج من هذه الظروف التي تنذر بامكانية مواجهة ازمة حقيقية قادمة في القريب العاجل خاصة في ظل اوضاع سياسية واقتصادية مضطربة تشهدها منطقتنا قد تتطور في اتجاهات لايمكن التنبؤ بابعادها الحقيقية.
ان الدولة تمتلك - بلاشك - العديد من السياسات الممكنة لتخفيض الدين العام مثل برامج الخصخصة المتمثل في بيع جزء من المؤسسات العامة كشركة الاتصالات وشركة سابك وشركة الكهرباء والخطوط الجوية السعودية واستخدام عائدات ذلك في خفض الدين العام, كما توجد هناك برامج تشجيع وجلب الاستثمارات الاجنبية في مجالات الغاز والكهرباء والمياه, وهناك برامج تنويع القاعدة الاقتصادية لدعم الناتج المحلي مثل تطوير قطاع السياحة كمورد مساند وهناك برامج تشجيع الادخار ومنع هروب الاموال للخارج وهناك سياسة ترشيد المصروفات واعتماد ميزانيات تقشف لسنوات متتالية وغير ذلك من السياسات التي لابد - اذا تم تنفيذها وفقا لاهداف محددة ومعايير موضوعية ومنهجية واضحة - ان تؤتي ثمارا ايجابية يانعة, ونحن على ثقة بان المجلس الاقتصادي الاعلى وهو يضطلع بمسئولياته في هذا الصدد لقادر بمشيئة الله ثم بفضل الخبراء الذين يحتضنهم على لجم مثل هذه الازمة ووضع اسس راسخة لاقتصاد وطني واعد, الا اننا نتطلع في الوقت نفسه لمزيد من الشفافية والوضوح في التعامل مع الوضع الاقتصادي والمالي لبلادنا حتى نمنع المزايدات الخاطئة والتحليلات المغلوطة التي قد تترك آثارها السلبية على السوق المحلية وحركة الاستثمارات والاموال فيها وهي بيئة كلنا نعلم انها كمثيلاتها سهلة التهشم والاضطراب.
ان الخروج من ازمة الدين العام لا يأتي من خلال التخلص منه كما يطالب البعض - هذا لو كان ذلك متاحا - بل من خلال الحد من تناميه ووضع السياسات المناسبة لكي يبقى ضمن المعايير الاقتصادية المقبولة.