قد يستسلم الانسان لبعض مباهجه الصغيرة.. وينتقل فجأة من الهم والغم ومتاعب الدنيا،ويقفز الى مدارها الارحب ويدرك انها اكثر اتساعا.. واكثر جمالا، ولكن هذا الهروب الموقوت لا يلبث ان يتبخر.
بالامس احد العائدين من رحلة طويلة حول العالم ـ زفر ـ في وجهي وخرجت انفاسه.. كالنار وتحول فمه الى فوهة بركان وتمتم بكلمات مبهمة وغامضة وبعد ان ذرع الغرفة ذهابا وايابا توقف وكأنه قد اتخذ قرارا هاما.
لن اسافر بعد اليوم!!
وعاد كمن يحدث نفسه ـ لقد تعبت من الترحال.. وفي النهاية لا نحصد الا وجع الدماغ.. والغلب والتعب والمشاكل في انتظارنا سواء رحلنا ام بقينا. ثم انتزع منديلا وبصق في داخله وكأنه يتف على الدنيا وآلامها. قلت له: اهدأ يا رجل واذكر الله.. واستعذ به من ابليس واعوانه. قال بهدوء وخشوع ـ لاحول ولا قوة الا بالله استغفر الله العلي العظيم ـ . وبعد ان هدأت نفسه قليلا.. قال: لقد تعودت على السفر منذ ان كنت شابا.. ولم تكن هذه الرحلات من اجل السياحة فقط.. وانما للعمل ايضا وكنت اوكل الاشراف على اعمالي التجارية لرجل ثقة من اقاربي.. وهو امين ومخلص ويخاف الله، ولكنه تورط بالزواج من الخارج من بلد عربي.. وقد جاء بشقيق زوجته للعمل معنا في احد ـ دكاكين الذهب ـ التي املكها والتي يقوم هو بالاشراف عليها.. ولكن شقيق زوجته نهبنا وسرقنا في عز الظهر تحت سمعه وبصره، وفي كل مرة كان يتلمس له العذر ويوجد له مخارج ومنافذ حتى كدت اشك انه شريك له.. ولكن اتضح ان المسكين ضحية لزوجته وشقيقها.. والحق انه قد تحمل كل الخسائر.. الفادحة ودفعها من حصته من الارباح ولكن في المرة الاخيرة كان المبلغ المسروق كبيرا جدا.. وقد اكتشف مؤخرا خداع زوجته وشراكتها لشقيقها في اعمال السرقه، وقد قاما بتحويل مبالغ كبرى الى بلدهما.. لا يمكن تعويضها مما اضطره الى طلاق زوجته وترحيل شقيقها معها..
قلت له: وماذا فعلت انت والمال مالك.
قال: ماذا افعل.. العوض على الله.. لقد رأيت ان تصفية استحقاقه.. وارباحه لا تصل الى نصف المبلغ المنهوب فاخترت الله عوضا.. ولكني حزين على عشرة عمر طويلة دامت اكثر من ثلاثين عاما.. لقد افترقنا والسبب اولاد الحرام وثقته فيهم.. وماذا يفعل صاحبك الآن..!! ـ لا شيء ـ انه مكتئب.. ومنعزل في منزله.. والذي يحيرني انه رفض استلام نقوده واستحقاقاته برغم انها تصل الى اكثر من مليوني ريال.. وتنازلي عن كل الخسائر التي لحقت بنا بواسطة شقيق زوجته.. وهو يقول ان كل (فلوس) الدنيا ـ لا تعوضه خسارته لصداقتنا وكما ترى ـ انا محتار ـ فالشراكة لم تعد تنفع ولا العمل معا ايضا.
قلت له: اذا انتهت الشراكة
فلتبق الصداقة.. وهذا يكفي.