أوصى الأب ابنه محسن قبل رحيله من عالم الدنيا.
ـ أوصيك يا ولدي الأكبر بأخوتك فهم النسل الباقي. وأوصيك بنفسك. وكما لابد للنفس أن تهنأ وللشمس أن تغيب.. وللق...
وصعدت روحه الى السماوات السبع. تاركا أبناءه يتامى. بدأ محسن حياته المأساوية بفراق أبيه الذي كان يرفرف عليهم بعطفه وحنانه. فكر محسن بعد وفاة أبيه أن يهجر المدرسة ولكن المدرسة هي التي بها يتفهم الدنيا فكيف يتركها فأخذ يفكر في هذه المشكلة لعله يجد حلا. فخطرت على باله فكرة جيدة وهي أن يضرب عصفورين بحجر واحد, أن يعمل في المساء ويدرس في الصباح ويكون قد وفق بين الاثنين. فبدأ رحلته بالبحث عن العمل في الشتاء القارص فلقد كان شاقا في البحث عن العمل وفي أحد الأيام وبينما محسن راجع الى منزله لاحظ رجلا يقود دراجة وخلفها علبة كرتون بها خبز (الرقاق) وأخذ ينظر إليها وتفكيره يعمل. فقال: لم لا أبيع الرقاق فهي مهنة بسيطة وغير متعبة فحدثته نفسه, لكنك لاتتقن صنع الرقاق وليس لديك الآلة التي تصنع الرقاق, فسمع أخوته الصغار ذلك فتأسفوا لكنهم عقدوا اجتماعا قرروا فيه:
ـ يجب علينا أن نعين أخانا الأكبر من مصروفنا الخاص ونشتري له الآلة. وبدأ الأخوة الصغار يجمعون الأموال ويضعونها في (حصالتهم) ومن هنا وهناك حتى امتلأت الحصالة بالأموال وأصبح عندهم مبلغ معقول فقرروا الذهاب لشراء الآلة فدخلوا محلا وسألوا عن الآلة فرأوا أن سعرها أكثر حيث بقيت عشرة ريالات فحاولوا مع البائع بتشغيل عواطفهم ان ابانا متوفى ونحن نريد هذه الآلة لاخينا ليعمل بها. لكن لا فائدة فخرجوا يائسين من عدم شرائها وعدم رضا البائع الذي أنبه ضميره لما رأى أطفالا بهذا السن جاؤوا ليشتروا لأخيهم الأكبر هذه الآلة فخرج من محله يناديهم.
ـ لقد وافقت بما لديكم.
فأسعدهم ما سمعوا حتى كادوا يطيرون في الفضاء من شدة الفرح ففكروا في أن يجعلوها مفاجأة لأخيهم فغلفوا الآلة ووضعوها في غرفته وكتبوا عليها من النسل الباقي الى الاخ محسن هدية المستقبل وخرجوا من غرفته دون أن يعلم أحد ولما حل الليل وأرخى سدوله عاد محسن متعبا من البحث عن مهنة مناسبة فدخل البيت كالعادة يسلم على أمه ويقبل جبينها الطاهر ويحيي اخوته الصغار, فدخل محسن غرفته لكن لم ينتبه للهدية فبينما هويناجي ربه بأن يرزقه مالا يشتري هذه الآلة لمح ببصره شيئا عند الدولاب فرأى البطاقة فتحركت شفتاه فابتسم.. دخل عليه اخوته فضمهم الى صدره الدافىء فهم حققوا أمنيته التي كان يحلم بها. تبسمت الأيام لمحسن وأصبح يدرب يديه على الآلة حتى يتقن عمل الرقاق ويبني لأخوته مستقبلا هنيئا، وبعدما أتقن محسن صنع الرقاق أخذ يبيعه عند تقاطع السيارات وفي الحدائق فكان يخرج عصرا من بيته ينادي.
ـ تأوه... تأوه.. يا حلاوة.. رقاق بلدي.. تأوه.. يا حلاوة
فيبقى حتى تحجب الشمس نورها فيرجع إلى البيت مسرورا خاصة عندما يبيع ما معه.
لم يأخذه اليأس ولم يعرف اليأس يوما لأنه دائما متفائل بالخير فوقته كالساعة وقد وضع نفسه موضع الأب الذي في عنقه المسؤولية وكان يسأل نفسه دائما عندما يحل الليل وأراد أن ينام.
ـ يا ترى هل أديت واجبي؟ ولم أقصر في شيء؟
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ففي أحد الأيام خرج محسن كعادته يبيع الرقاق ويقف عند تلك الاشارة فبينما هو كذلك إذ حلق بعينيه الى السماء يبني خياله فيقول في عالمه.
ـ غدا هوعيد الأم وسوف أشتري لأمي هدية وأفاجئها بها وسوف أجمع أموالا كثيرة بإذن الله وأفتح محلا وأكتب عليه محل محسن لبيع الرقاق ويكبر المحل وأجعل أهل بلدي يعملون فيه وأبني لي بيتا وأتزوج.
فيهدم عليه خياله المستقبلي صوت أبواق السيارات فيعاود عمله من جديد حاملا ذلك الكيس ويجول بين السيارات هو مشغول الخاطر في مستقبله. لكن الحظ خانه وهو يتخطى السيارات فلم يلمح تلك السيارة الآتية كأنهاعاصفة هوجاء ليهوي على الأرض متأوها.
ـ تا...و..ه..حلا...
فهوى بجسده الى الأرض يتلوى لتطير قيمة هدية أمه، كالطيور في الهواء تحطمت أحلامه كالزجاج واختلط الرقاق بجسده فأصبح مطليا بالدم الأحمر القاني فطارت قطع الرقاق في الهواء بل طار تعب الأيام والليالي واصبحت عيناه غائرتين وجسده في سكون تام تجمهر الناس من حوله, أم تبكى ووالد يرثي وخرجت أصوات من كل جانب يتردد صداها.
ـ كان يحلم دائما بأن يصبح له محل.
ـ وهويقلب كفيه خسارة... خسارة. رحل عنا
ـ قال لي لا تبع هذه الهدية فإني سوف اشتريها لأمي لكن.. لا وبعد أيام قلائل في المدرسة التي يدرس فيها علق اعلان في زاويته خط أسود ينعى محسن.
(أمين علي آل سماح)
@ من المحرر
محاولة قصصية تضعك على الطريق
فحاول أكثر قراءة وكتابة