تصدر من الولايات المتحدة منذ عدة شهور مؤشرات قد يصعب ايجاد فهم آخر لها غير النية المبيتة لحرب وشيكة ضد العراق، وهي تتذرع بحجج تطلقها بين الحين والآخر كالسعي لنزع أسلحة الدمار الشامل التي يمتلكها وكبح جماح هذا النظام المغرد خارج سرب المنظومة الدولية والقضاء على تهديده للدول المجاورة له وما شابه ذلك، وهي لا تتردد في هذا الصدد من ان تضع هذه السياسة ضمن سياق حربها المعلنة ضد الإرهاب والذي طالما طالبت دول العالم بل والزمتهم بأن يختاروا بين التحالف معها في حربها وعليهم في هذه الحالة ان يدفعوا ما يتوجب عليهم في هذه الحرب أو غير ذلك وفي هذه الحالة سيتم اعتبارهم أنهم يقفون في الجهة المعادية لها وعليهم أن يواجهوا تبعات مثل هذا العداء الصارخ للقوة العظمى الوحيدة في العالم، ولكن المتتبع للشئون العراقية يجد أن هذا البلد قد خرج بهزيمة كبرى أثناء حرب تحرير الكويت وخضع لبرامج تفتيش دولية استمرت اكثر من 9 سنوات لنزع وتدمير أسلحة الدمار الشامل لديه، كما أنه مستسلم لبرنامج وصاية دولية تحدد حجم مبيعاته وما يتوجب عليه شراؤه بما لايتعدى الغذاء والدواء والمواد ذات الاستخدام المدني، وهو في الوقت نفسه يعاني حصارا اقتصاديا قاسيا قد أتى على مقومات حياة شعبه وفوق ذلك هناك منطقتا الحظر الجوي اللتان تستخدمهما أمريكا وبريطانيا للمراقبة والتجسس والقضاء على أي تحرك يمكن أن يشكل تهديدا عسكريا ولو محدودا، فهل يمكن أن يتصور مع كل هذه الضغوط أن العراق مازال يشكل خطرا يتوجب معه خلع مخالبه؟ وإذا كانت هذه المخالب قد تم قلعها بالفعل - كما هو ملاحظ من استسلام العراق لكل الشروط التي تفرضها امريكا عليه - فما هي الغاية من هذا الهجوم الذي لا يخفي المسئولون الأمريكيون أنه لن ينتهي الا بتغيير نظام الحكم؟
إن محاولة الإجابة عن مثل هذا التساؤل ينبغي أن تتم من خلال فهم السياق التاريخي للأحداث التي شهدها العالم منذ انهيار الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى وحتى الآن وقد يكون من أهم نتائجها الرغبة في تأكيد الولايات المتحدة لذاتها كقوة عظمى وحيدة تهيمن على مقدرات هذا العالم وهي لا تتردد في هذا السياق من العمل على تهميش اي تجمع سياسي او كيان اقتصادي او نظام دولي لا ينسجم مع هذا الواقع الجديد، بل وأبعد من ذلك فهي تسعى لتأكيد انتصارها في الحرب الباردة من خلال فرض قيمها الاجتماعية وفلسفتها الإقتصادية ومنهجيتها السياسية على الجميع، ولا شك في أن ما واجهته من تحديات صارخة تمثل في هجمات الحادي عشر من سبتمبر الدامية قد سبب لهذه السياسة نكسة خطيرة خاصة أن من قاموا بهذه الهجمات ليسوا الا افرادا لا يمثلون أكثر من أنفسهم، فكان لابد من مواجهة هذا التحدي بما يتناسب والضرر الذي لحق بهيبة القوة العظمى، فأطلقت واشنطن كل غضبها السياسي في اتجاه محاربة الإرهاب أينما كان وتحت شعار من لم يكن معنا فهو حتما ضدنا، وكان لابد من بعض الضحايا لإطفاء جانب من هذا الغضب ولتستعرض أمريكا عليهم قوتها العسكرية، والكل يعلم أن امريكا لاتسمح بأن يمضي اي ظرف سياسي مهما كان تافها دون ان تحسن استغلاله لأقصى مدى ممكن لخدمة مصالحها فكيف بمثل احداث الحادي عشر من سبتمبر، فكانت البداية نظام طالبان الذي لم يصمد إلا اياما قلائل امام بطش القوة الأمريكية، ثم جاء إعلانها المشهور عن محور الشر وضرورة محاربته وتصفيته كخطوة تالية وكان في مقدمة هذا المحور العراق الذي اصبح الضحية الثانية التي يجب ان تقدم في سبيل استعادة أمريكا هيبتها السياسية المهانة.
وليت الأمر يتوقف - لتحقيق هذه الغاية- عند محاربة من تعتبرهم أمريكا أعداء لها فقد يمكن تفهم ذلك، ولكن الأمر تجاوز المألوف لتقلب ظهر المجن ليس لمن لا يوافقها في سياستها او لا يلتقي معها في مصالحها فحسب بل وحتى لحلفائها الذين طالما وقفوا معها سياسيا واقتصاديا وحتى عسكريا في مواجهة خصومها، فها هي حليفاتها في الناتو تخضع للعديد من الضغوط لمجاراتها في حروبها القادمة وكثيرا ما كنا ومازلنا نسمع أن أمريكا ماضية في تنفيذ سياستها حتى لو بقيت لمفردها ضاربة عرض الحائط بمصالح كل حلفائها، وها هي تهدد بتجاوز الشرعية الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن إذا لم ينصاعوا لتوجهاتها ورغباتها الجامحة، وها نحن نجد أنفسنا في خضم هذه الأحداث نكتوي بشرار الغضب الامريكي وأصبحنا كالمتهمين نحاول الدفاع عن أنفسنا وكأننا ما قدمنا ولا عاضدنا ولا وفينا، فماذا تريدين بعد يا أمريكا؟
إنني لم أجد موقفا سياسيا صعبا ومحيرا كما هو الحال اليوم، فمن جهة نجد أن التاريخ السياسي للرئيس العراقي حافل بالكوارث والاخطاء السياسية الدامية التي لا يمكن تبريرها او فهمها وقد اكتوى بها القريب من هذا النظام قبل البعيد عنه وبالتالي فقد يكون من الصعب التعاطف معه والوقوف ضد الحرب القادمة حتى النهاية، ومن جهة أخرى فإن النية المبيتة وراء ضرب العراق والتي قد تصل لاستبدال نظامه وتقسيم أرضه ونهب ثروته وما ستفرزه من تغيرات ومضاعفات واسعة لا يمكن التنبؤ بأبعادها وهي ليست دائما في صالح شعوب المنطقة، فذلك أيضا مما لا يمكن قبوله او دعمه أو التسليم به من امريكا التي ساندت من احتل ارض فلسطين وشرد شعبها ويرفض حتى منحهم القليل الذي اقرته الشرعية الدولية ليعيشوا معه بكرامتهم كأي شعب آخر، وفوق كل ذلك تبدى عدم اهتمامها باحترام مصالح حلفائها بل وحتى الثقة في صداقتهم وعلاقتهم معها.