أخبار متعلقة
بينما كنت أتمشى منذ أيام قليلة على الواجهة البحرية الجديدة للخبر متمتعا بجو تلك الأمسية الربيعية , رأيت على الواجهة الأخرى من الشارع (شارع الكورنيش) المخازن المختلفة كالمكتبات وأسواق المواد الغذائية ومحلات الملابس فقررت أن أعرج على واحد من تلك المحال حبا في الاستطلاع ورغبة في التنويع , وعزمت على عبور الشارع وأنا لاازال متمتعا بنفسية مرتاحة وأعصاب هادئة فكل ما حولي يدعو إلى الدخول في حالة من الاستجمام اللطيف , ولكن حين اتجهت إلى حافة الرصيف شعرت مباشرة بعظم الأمر الذي نويت القيام به , فالسيارات تمر مسرعة كأنها تسابق الريح وعرض الشارع واسع ليجعل عملية عبوره اكثر صعوبة , وبدأت بالتحفز والترقب والتخطيط لعملية العبور وما أن سنحت لي فرصة لا تخلو من مغامرة قفزت راكضا إلى الجزيرة الوسطية لأعيد عملية التخطيط لعبور الطرف الثاني من الشارع.
وتذكرت شارع الراكة الرئيس الذي مر مؤخرا بعمليات تحسين واسعة جعلت منه طريقا مريحا وسريعا , فبينما كنت أتعمد تجنبه في طريقي إلى الجامعة , صرت من مرتاديه باستمرار , ولكن حصل مرة أن احتجت الى أن أعبره ماشيا من طرف إلى آخر بعد تحسينه وأذكر أن مشاعري كانت حينها مشابهة حين عبرت الشارع البحري إضافة الى شعوري بالحزن لتذكري أيام كان عبور ذلك الشارع سهلا وآمنا.
يتفق مصممو المدن على أن لأي شارع قدرتين: قدرة الجمع بين طرفي ذلك الشارع وقدرة الفصل بينها ويتحكم في هاتين القدرتين أمران: عرض الشارع وسرعة الحركة عليه , فكلما صغر عرض الشارع زاد الرابط بين الطرفين وتلاحما وظيفيا واجتماعيا , والعكس صحيح , وكذلك تفعل سرعة السيارات , فمع زيادتها تصعب عملية عبور الشارع فيقل الارتباط بين الطرفين , لذلك نرى طرقات الأسواق في المدن العربية ضيقة لتسهل على المار العبور من طرف إلى طرف فيستطيع التسوق من جهتي الطريق دون عناء. ولا يخفى انه تبدو حركة السيارات في مثل هذه الشوارع شبه مستحيلة , وعلى النقيض من ذلك نرى الشوارع الرئيسية في المدن الحديثة عريضة ومستقيمة لتسير حركة سيارات المواكب الرسمية بغض النظر عن سهولة عبور هذه الشوارع للمشاة.
وهكذا يظهر أن حركة المشاة والسيارات غالبا ما تكون متنافرة ومتعاكسة , وليس من المتاح دوما تسهيلهما معا في المكان نفسه وفي الوقت نفسه. لذلك ظهرت اولا الإشارات الضوئية لتجعل تقاطعات الطرق آمنة ثم ظهرت الجسور والأنفاق لنفس الغرض مع السماح باستمرارية الحركة دون انقطاع أو إبطاء. وقد بدا انه من الممكن استخدام هذه الأساليب أيضا لحل مشكلة التقاطع بين المشاة والسيارات , فظهرت جسور وأنفاق للمشاة. وبالتالي غدا من الممكن ربط طرفي أي طريق بوسيلة أو بأخرى , ولكن النقطة المهمة هي ليست عملية الربط وإنما الإحساس بالترابط والاستمرارية بين طرفي الطريق , بمعنى آخر هناك أمران يجب الانتباه إليهما هنا: الأمر الأول هو سهولة الربط بين طرفي الطريق وتعني إمكانية الوصول من طرف إلى طرف , والأمر الثاني هو الاستمرارية بين طرفي الطريق التي تعني الشعور بوحدة طرفي الطريق فراغيا ووظيفيا.
يتضح الفرق بين الربط والاستمرارية من خلال مثال بسيط: إذا نظرنا إلى جسر المشاة المنشأ حديثا والواصل بين الواجهة البحرية والطرف الثاني من الشارع البحري في الخبر لعرفنا أن إمكانية الانتقال من جهة إلى أخرى متوافرة عند تلك النقطة , فالجسر عنصر ربط الطرفين يسمح بالحركة بينهما. ولكن هذا الجسر لا يستطيع أن يولد الشعور بأن ما يجري على الواجهة البحرية مرتبط بما يجري في المحلات التجارية على الطرف الآخر من الشارع , فالاستمرارية بين الطرفين لا تزال مفقودة . من هنا يظهر أن لمصمم الطرقات في المدينة خيارين: إما أن يربط بين طرفي الطريق بصرياً وحركيا ووظيفياً فيحقق الربط والاستمرارية، أو أن يحقق نوعا من الربط الحركي بين الطرفين مانعاً الاستمرارية بينهما . وفي واقع الأمر يحتاج المصمم للخيارين حسب موقع الشارع والوظائف التي على جانبيه.
ففي الحالات التي يظهر فيها تباين وظائف الطرفين قد يكون من الأفضل أن يستخدم الطريق كأداة فصل يسمح بالربط ولكن لا يشجع على الاستمرارية . يمكن أخذ شارع الظهران كمثال على هذه الحالة، اذ أن نوعية الأسواق على طرفيه من ناحية الشرق (أي المنطقة الممتدة بين الشارع البحري وشارع الملك عبد العزيز) مختلفة الى حد كبير، لذلك يبدو من المنطقي أن يتم الفصل بين هذين الطرفين. كذلك يمكن النظر إلى حي سكني مثلا مجاور لمنطقة تجارية، وفي هذه الحالة يبدو أيضا أنه من الممكن التفكير في ربط حركي من دون العمل على توليد شعور بالاستمرارية لخصوصية كل منطقة .
أما في الحالات التي يكون فيها طرفا الطريق على علاقة وظيفية فمن المهم أن تعزز هذه العلاقة بتحقيق الاستمرارية بينهما. من هذا المنطلق بدأت الشوارع المحررة من حركة السيارات بالظهور في مراكز المدن المزدحمة إذ بها بتحقق الشعور بالاتصال بين جهتي الشارع بشكل كبير .
فحركة السيارات في سوقي الحميدية والصالحية في دمشق على سبيل المثال قد أوقفت تماماً كنتيجة حتمية لحميمية العلاقة بين طرفي هذين السوقين وشدة الاحتياج لتحقيق الاستمرارية بينهما. وبالعودة إلى الشارع البحري في الخبر، يلاحظ أن الواجهة البحرية يتم تطويرها بشكل مطرد، ففيها المطاعم والجلسات المفتوحة وأماكن اللعب وممرات المشي الممتعة. أما الطرف الآخر من الشارع فلا ينقصه النشاط في التطوير، فالمطاعم والمحلات التجارية المتنوعة في ازدياد دائم. ولذلك يبدو أن تحقيق الاستمرارية بين الطرفين ضروري للغاية إذ به تزداد خيارات الماشي وفرص تمتعه بما يقدمه الطرفان معاً. وهنا السؤال الصعب: كيف يمكن تحقيق الاستمرارية في شارع كهذا؟ فحركة السيارات كثيفة وسريعة ولا يوجد بديل لهذا الطريق كي يستوعب كم السيارات المارة من خلاله. لذلك فعلى المصمم أن يطلق لخياله العنان في مشروع قد يكون مكلفاً ولكنه بالتأكيد سيكون مربحاً على المدى الطويل. ذلك لأن الخيارات التقليدية والمتلخصة في استخدام الإشارات الضوئية أو جسر للمشاة أو نفق لا تبدو صالحة هنا لأنها ستحقق الربط ولكنها ستعجز عن تقديم الاستمرارية. قد يكون من الوارد التفكير في إنزال قسم من الطريق، خاصة عند منطقة الواجهة البحرية الجديدة، تحت سطح الأرض بحيث يمكن تطوير ساحات واسعة متعددة النشاطات تربط بين طرفي الطريق. ومن الممكن أيضاً رفع الطريق على جسور لتكون تحته منطقة مظللة تحقق نفس الغرض. وهكذا تصبح هذه المنطقة نواة مليئة بالحياة والمتعة يمكن إيجاد رديف لها عند مركز سلطان بن عبد العزيز للعلوم والتقنية في الجهة الشمالية من الواجهة البحرية للخبر. في جميع الأحوال يبقى الخيار للمصمم في إعطاء الطريق القدرة على تقديم خدمات أبعد من الخدمة البسيطة والمتمثلة في عملية الحركة. فالطريق مكان للقاء والتسوق والتسلية والتنزه إن أحسنت تهيئته لهذه المهام.
أستاذ مشارك , قسم عمارة البيئة
كلية العمارة والتخطيط , جامعة الملك فيصل
جسور المشاة ساهمت في حل جزء من المشكلة