نقول عراق الحاضر لأن عراق المستقبل معروف. في عراق المستقبل لن تكون الكلمة لغير الشعب العراقي وقواه الحية. هكذا تقول التجربة التاريخية للشعوب ـ كل الشعوب ـ في اليابان وفي مصر وفي فيتنام بل وفي أمريكا. اما في عراق اليوم فلا الماضي بكل معاييره الصارمة ولا المستقبل بكل نهاياته الواضحة بقادر على اعطاء الأجوبة الناجعة والمسالك العملية الصحيحة للخروج من الأزمة العميقة والمعقدة التي يمر بها العراق والتي ربما على أساس سبل الخروج منا سيتحدد الكثير من الرؤى لكيفية خروج بلدان المنطقة بأثرها من الأوضاع المزرية التي تعيشها ليس فقط على مستوى الحكومات بل وعلى مستوى الشعوب.
الأوضاع في العراق اليوم تقدم نموذجا متكاملا لمشكلة غاية في التعقيد ومع المشاكل المعقدة مارس الفكر السياسي العربي النخبوي والشعبي على حد سواء أسلوبين مختلفين في التعاطي مع المشاكل المعقدة سواء على مستوى التفكير او الفعل. ومن المفارقات العجيبة ان كلا الأسلوبين يستندان على أرضية واحدة ويصلان بالنتيجة الى استنتاجات متعارضة لكن كليهما خاطئة. يأخذ الأسلوبان أمام المشكلة المعقدة في الميل للارتكاز على ربط الظاهرة المعقدة بمكوناتها البسيطة او المبسطة واعطاء هذه المكونات البسيطة أهمية فائقة تحجب جوهر المشكلة المعقدة وتوصل الى استنتاجات غاية في الوضوح والسهولة ويؤسس عليها موقف لديه الحل السهل والواضح لمواجهة المشكلة.
لقد اغنت تجربة الخلاص من الاستعمار الأجنبي هذا الميل (المعرفي) وأوصلت البلدان المستقلة للوضع البائس الذي تعيشه الآن. ذلك لا يعني وتحت أي زريعة بأن الاستعمار كان جيدا بل ان المشكلة المعقدة وهي مسألة البناء والتنمية وكل ما يحيط بها من تعليم واقتصاد ومؤسسات مجتمع مدني وتخطيط علمي لم تؤخذ كمكونات أساسية للمشكلة المعقدة وهي الاستقلال وطرد المستعمر الأجنبي.. هكذا فكر وتصرف البعض. وهكذا فكر آخرون بشكل مغاير مستخدمين نفس الأسلوب وهو الأخذ بالميل نحو (فضائل) الاستعمار وهم وان كظموا الغيظ على مدى الخمسين سنة الماضية فانهم وتلاميذهم ينادون اليوم بالبقاء المطلق للوجود العسكري الأمريكي في العراق وصولا الى درجة الهبوط الأخلاقي في مطالبهم كما جاء على لسان أحد دعاة هذا النهج حيث ينصح العراقيون من بين ما ينصح به بمعالجة أوضاع التفكك الأسري الذي حل بالعراقيين خلال فترة الديكتاتورية.
وحدهم العراقيون اليوم يملكون حق الكلمة ووحدهم العراقيون يستطيعون بحضارتهم وتجاربهم المريرة تقدير حجم المشكلة وتعقيداتها وتقدير حجم المشروع الأمريكي ليس فقط العسكري والاقتصادي بل والسياسي والفلسفي.
صحيح ان العراقيين في حاجة أكثر من أي وقت مضى للدعم والمساندة على كل المستويات من اخوانهم العرب والمسلمين لكن سلة الدعم السياسي مليئة بالأوبئة وعلى القوى الحية في العراق نشر التوعية الصحية المضادة.
ان وصفات من طراز (الرحيل الفوري للقوات المحتلة) او سل سيف الخوف من العودة (للتناحر الحزبي) هي وصفات اما مضللة او ذات نفس ديكتاتوري جديد.
ان الخطاب الشعبوي (استمالة مشاعر الناس) هو تسلية واعية لاضاعة المعالم المعقدة للجريمة الماثلة على أرض العراق اليوم.