(جيورنيكا) أحد أهم وأقوى الأعمال الفنية في القرن العشرين والتي تعبر عن رسالة واضحة ضد الحروب ومآسيها، رسمها قبل أكثر من 66 عاما رائد الحركة التكعيبية الرسام الاسباني الشهير بيكاسو احتجاجا على المجزرة التي راح ضحيتها 1600 شخص من سكان مدينة جيورنيكا (أو ما عرف آنذاك بعاصمة اقليم الباسك) نتيجة قصف القوات الألمانية لها بالتواطؤ مع الجنرال الفاشي فرانسيسكو فرانكو الذي كان يحارب ضد قيام الجمهورية الأسبانية في الحرب الأهلية الأسبانية. مع تزايد الاحتجاجات التي شهدتها أوروبا لهذا القصف الهمجي، وتحديدا في الأول من مايو 1937م، شارك بيكاسو في هذه الحملة عن طريق رسم الـ جيورنيكا أو ما عرف بالعمل الفني الانساني والسياسي الأوحد الذي أصبح أقوى شعارا مناهضا للعنف في تاريخ الفن المعاصر. وربما قد تكون آخر لوحة ذات قيمة فنية هامة كونها استوحت موضوعها من السياسة لهدف تغيير الطريقة التي يفكر ويشعر بها عدد كبير من البشر حول منطق القوة. فالنسخة النسيجية من النسخة الأصلية والتي أخرجت بالأبيض والأسود (11x26 قدما) أهداها حاكم ولاية نيويورك الأسبق نيلسون روكفلر الى منظمة الأمم المتحدة وتم تعليقها خارج غرفة اجتماعات مجلس الأمن كي تصبح محورا لمصوري التلفزة ومراسلي الصحف عند تصويرهم لأعضاء المجلس أثناء دخولهم وخروجهم.
ويمكن اعتبارها أيضا مناهضة لجميع الممارسات الوحشية والمجازر التي ارتكبت بحق الانسانية في كل أرجاء المعمورة في التاريخ الحديث مثل دير ياسين بفلسطين المغتصبة، حلبجة في أرض كردستان العراق، صبرا وشاتيلا في لبنان، سيربنيتشا في البوسنة، قانا في لبنان، راوندا في افريقيا، وغيرها من المجازر التي لا يحضرني ذكرها، اضافة لما يجري يوميا في أرضي فلسطين والعراق بحق الأبرياء العزل وبواسطة قوات تسلحت بأقوى الأسلحة الفتاكة وبمنطق (محاربة الارهاب) تارة، و(نزع أسلحة الدمار الشامل) تارة أخرى.
يبدو أن أمريكا ومن تحالف معها (نظير الظفر بأي شيء، حتى بما تبقى في الأمعاء الغليظة للذبيحة!) قد مهدت للحرب الحالية والأصح العدوان الغاشم على شعب العراق بشكل تهكمي من خلال تبريرات وهمية مستفيدة من منطق بسط النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري على جميع الدويلات والدول كقوة عظمى مستفردة ومن خلال تحييد واسكات بعض مندوبيها في مجلس الأمن وهو أمر بات مألوفا في هذا العصر الغريب رغم استنكار وشجب غالبية شعوب العالم التي مازالت تخرج يوميا بعشرت الألوف للتعبير عن رفضها للعنف والاستبداد (!)، لكن الشيء غير المألوف هو ممارسة سلطاتها الخفية لاسكات رسالة الـ جيورنيكا ودعوتها الصريحة لمناهضة الحروب، وفي مكان يفترض فيه سماع صوت الحق ونصرة المستضعفين وتخفيف معاناتهم.
هذا الموضوع تحديدا تناولته مجلة (Monthly Review) التي تصدر من نيويورك في افتتاحيتها ليوم الخميس 3 ابريل 2003م عندما بين رئيس تحريرها ان الحقيقة والضمير والفن هم أول ضحايا الحرب على العراق، في اشارة واضحة لما حدث في أروقة المنظمة العالمية من تغطية مفتعلة للرسالة التي تحملها الـ جورنيكا في وقت العالم أحوج ما يكون لهالعدم وجود ما يماثلها. مهما كانت التبريرات أو الاجتهادات من موظفي المنظمة العالمية بمن فيهم أمينها العام حول ما حدث في سبيل تهميش تلك الرسالة الفنية الخالدة التي تحملها الـ جيورنيكا من خلال تغطيتها بشعار المنظمة العالمية في اللحظات الحرجة وأثناء مناقشة موضوع (تبرير العدوان على شعب العراق العربي المسلم) قبل عدة أسابيع، وتحديدا أثناء زيارة وزير الخارجية الأمريكية للمنظمة الدولية لاطلاعها على أهم استنتاجات حكومته في الربط بين تنظيم القاعدة والحكومة العراقية (الذي لمتقتنع بها الغالبية بمن فيهم الوزير المنتدب لهذه المهمة المغلوب على أمره!!) فيمثل هذا الاجراء (الخفي) تهكما على رسالة الفن الانسانية، تلك الرسالة النافذة في أسر قلوب البشر قبل عقولهم.
لعل النضارة التي ازدانت بها قاعة مجلس الأمن منذ عام 1985م بوجود النسخة النسيجية للـ(جيورنيكا) مصدرها الرسالة الصادقة والمؤثرة المستوحاة من بشاعة الحروب، والأهم من ذلك، توافقها مع ميثاق المنظمة الدولية التي بدأت تفقد بريقها مؤخرا، بسبب الشكوك حول مقدرتها في فعل شيء ملموس لنصرة الشعوب المستضعفة التي تطحن (بضم التاء) يوميا من قبل القوى المتغطرسة التي تختلق المبررات والأكاذيب لاستمرار مسلسل القهر والعدوان بغية تحقيق مصالح شخصية لا تتفق مع مصالح شعوبها أولا وأخيرا.