في ضوء الحقائق السياسية الصارخة, فان تحرير العراق من صدام حسين بالقوة يعني ان يتمتع العراقيون بفرصة لترتيب شؤون الحكم باختياراتهم المحلية وفي ظل حماية دولية, وان أي طريق آخر غير هذا التحرير العراق يعني هيمنة دول الجوار على شؤون هذا البلد, وبالتبعية (حرب أهلية) على غرار النموذج اللبناني, تغذيها دول الجوار لمدة لا تقل عن 17 عاما. لا تملك إلا ان تنتهي الى هذا الاستنتاج وانت تقرأ مطالبة حركة (الثورة الإسلامية في الجنوب) باستبدال المشروع الدولي, الذي تقوده الولايات المتحدة, بمشروع (اقليمي) لتحرير العراق. عندما أقول (اقليمي) فانني لا التفت الى عبارة (رص الصفوف لتحقيق التحرير من الداخل) فهذا يشبه قول آخرين (اتركوا تحرير الكويت لأهل المنطقة) في عام 1991م. كلنا يعلم عجز دول المنطقة عن تحرير الكويت آنئذ فضلا عن تحرير العراق اليوم. لقد كشفت تجربة رئاسة لبنان اجتماع وزراء الخارجية عن الأسلوب (القاسي) الذي تدير به دول المنطقة الكبيرة الجار الصغير, والذي تهيمن على مقاليد الأمور فيه حيث لا تدع له أبسط معاني الكرامة الوطنية والتي يتحملها اللبنانيون في الداخل على مضض, وجاءت قمة القاهرة, لترغمها على ممارستها في الخارج, وعلى العلن!! هذا يمكن ان يحدث في صورة مكبرة لو تحرر العراق ـ جدلا ـ بجهود دول الجوار, ولهذا فليس أمامنا إلا التشكيك في مصدر تلك الدعوة, والتي إما ان تكون من عراقيين لم يستفيدوا من دروس الآخرين, او من وكلاء عن الجيران. الاعزاء. أما التحالف الدولي, فقد سبق ان اثبتنا بالوقائع السياسية والاقتصادية ان الكويت لم ترغم على اتخاذ أي قرار ضد قناعاتها, ارجع الى مناسبة ضغط الوزير وارن كرستوفر والى مشروع شركة انرون في الكويت, وقارن ذلك بتجربة لبنان في قمة القاهرة (....). ان النصيحة التي تقدمها للمتعاطفين مع بعض دول الجوار في العراق ان إيران ـ على سبيل المثال ـ بلد يسعى للخروج من الدوامة السياسية الدولية والمحلية, وهو يملك فرصا جيدة جدا للنهوض, وبالتالي فانه لن يجازف بها لدعم فصيل عراقي, ليكرر حرب السنوات الثماني ومن الأفضل لإيران, وللعراق البحث عن صيغ حضارية لحفظ الحقوق المحلية, والوطنية, للجنوب. ياجماعة ألا يكفي دروس نصف قرن من المهازل حتى نعود الى طريقة فتح الدكاكين و(شغل) القبضايات اللبناني وأسلوب القبائل الأفغانية؟! نظام بغداد ـ من الناحية العسكرية ـ يتوقع حربا قادمة من جهة غير محددة حيث يتكافأ حجم الحشود في الشمال مع الجنوب وفي الجهتين هناك عمق استراتيجي للقوات المهاجمة, فالأتراك متمرسون في الحركة السريعة بين جبال الأكراد, وقد وضعوا خبرتهم في صالح التحالف, اضافة الى الدعم اللا محدود من الأرض ممثلا في الشعب الكردي. الجنوب يمتد حتى خليج عمان وهو مشحون بالقوات الضاربة بحرا وبرا. ترى هل يتكرر سيناريو حرب 1991, ويكون الدخول من أقصر الطرق الى بغداد, وليس من الجنوب كما كانت بغداد تتوقع؟. الحشود العسكرية في الشمال والجنوب تتم تحت اضواء وسائل الإعلام ليل نهار, اما الحشود في الأردن, فهي تهتم بصمت مطبق. من جانب آخر, فان اتجاه المخطط المعلن الى تسليم بريطانيين شؤون الإدارة المدنية, للعراق. فيما يتولى الأمريكيون الإدارة العسكرية, وانسجام مع الخبرة الطويلة للانجليز في إدارة الأقاليم المتنوعة في العراق, بين مناطق الأهوار النهرية والمدن الرئيسية, والصحراء. عندما احتلت بريطانيا العراق بعد حكم الاتراك, وجدت بنية تحتية مهترئة, فأقامت نظام النقل البحري الحديث, وأنشأت نظام الاتصالات البريدية, ومن يقرأ مذكرات تلك الفترة يجدانهم اعتمدوا وسيلة (تقديم خدمات أكثر) كممر للسيطرة على شؤون البلاد, جنبا الى جنب مع الانتشار العسكري. في مذكرات غلوب باشا تقرأ عن ـ خبراته في صحراء العراق, وفي مذكرات الكولونيل ديكسون تقرأ عن تجربته في إدارة (سوق الشيوخ) والتعامل مع قبائل العراق الأوسط.. المنتفق والديلم.. الخ. كما تقرأ عن زيارة ديكسون الى الحوزة الدينية في النجف ممثلا عن بيرسي كوكس للاعتذار لاصابة حائط مسجد بالخطأ.. إلخ. انها خبرة تختلف عن خبرة جمال باشا السفاح الذي نصب المشانق في دمشق وطارد الزعامات القبلية المعارضة, واوجد شرخا مؤسفا بين المسلمين العرب والاتراك, لا تزال جراحه ماثلة الى اليوم. ان العراق بحاجة ماسة الى فترة انتقالية يجمع خلالها ما تشتت من أمره طوال فترات الحكم القمعي, ولابد من التذكير بان الاستعمار البريطاني قد رحل عن منطقتنا العربية بقرار بريطاني, فليس من سبيل لعودة الاستعمار, وان المستفيد من التواجد الدولي هو شعوب المنطقة بعدما ذاقت الأمرين من بني جلدتها, وأي مزايدة على هذه الحقيقة هي من التلاعب بمصائر الشعوب. لقد لبس صدام حسين - وغيره - لشعوبه المسوح, ثم مسح بهم الأرض وجعلهم في مؤخرة الأمم.