في الفترة التي يمكن أن نسميها (ربيع المراهقة) كانت مراهقتنا من الجفاف والجدب بحيث لا يستطيع اي خريف ان يبلغها تدميرا ومحلا لقد كنا بين جدران بنتها الخرافة واسبغ عليها التاريخ الجاهل مهابة من الوعي الزائف. وهو اشد فتكا من انحباس المطر.
كنا والحالة هذه نلوذ بالشعر نرى فيه المباهج التي حرمنا منها في الواقع: مباهج حرية التعبير عن النفس ومباهج التغزل بامرأة تصنعها انت من قول هذا الشاعر او ذاك وتبقى في الليالي الباردة تشعل مفاتنها لتدفئ وجدانك المرتجف خوفا وفرقا.
بين الجدب والخوف كنا نحدق حول هذا البيت الشعري:
وعينان قال الله كونا فكانتا
فعولين بالألباب ماتفعل الخمر
وبعد تكراره مرارا نتجادل هل (كان) في البيت ناقصة, وخبرها (فعولين) أم هي تامة, فيكون النطق السليم للكلمة (فعولان) لا (فعولين).
انه جدل عذب, ويزداد عذوبة, حين تلقي عليه المراهقة المحرومة, او حتى (المحرمة) تلقي عليه بظلالها وأخيلتها المنداحة بلا انقطاع.
اصر انا على ان (كان) ناقصة, وان (فعولين) خبرها, على ان المعنى يكون ابلغ بكثير من ان نعتبرها تامة ويكون (فعولان) مبتدأ, لاخبرا لكان.
لماذا؟
لان فعل العينين, حين نعتبر (كان) ناقصة, يكون فعلا تكوينيا, فعلا طبيعيا ذاتيا, أما حين نعتبرها تامة, فان فعل العينين يكون من خيال الشاعر, فتزول منه تلك الذاتية التكوينية.
الشعر خيال لاحكاية واقع.
هكذا قال مراهق آخر, وكان يدافع عن عينين فعولين قد صاغهما بخياله, وراح ينسج حولهما ماشاء من فنون السحر والحور, وكل ما لم يبلغه خيال جرير, او نزار.
استشاط غضبا مراهق ثالث وقال, وعيناه تقدحان شررا, الم تسمع انت ياصاحب (كان) التامة رأي احد النحاة المتأخرين من ان الناقص في النحو اهم من التام؟
اما المراهق الرابع فقد اخرس الجميع حين قال: البلاغيون الجدد يعتبرون الفضلة في الجملة اهم من المسند ومن المسند اليه لا ان الناقص افضل من التام اما ثانيا فانكم تتجادلون حول شيء لا تعرفونه: هل شاهد واحد منكم فتاة واحدة في حياته الواقعية؟