"كل معرفة هباء، الا اذا رافقها العمل".. جبران
ان شعورا يتدفق حيا كلما تذكرت استاذي في مادة الاقتصاد.. كان استاذا متميزا فوقيا نزقا عبقريا ساخرا.. كان هو البروفسور، ولا استطيع ان اتخيل صفة بروفسور في الاقتصاد لغيره.. انه الدكتور محسون جلال.. كلما تذكرته سرت بي حية، طازجة، مشقة، راجفة، رهبة التلميذ الاول امام مارده.. المعلم الاول. ولقد تتلمذت في حياتي المعرفية اكاديميا (ولمدة قصيرة) وفي حياتي العملية (ولمدة اطول) على عقليتين شرستين عبقريتين شقيتين وكانتا بركانا لايهدأ من الذكاء الحارق والطبيعة المحرقة، هما الدكتور محسون جلال في الوجهة الاكاديمية، والدكتور فايز بدر في الوجهة العملية.. كلما تذكرتهما تلبستني رهبة التلميذ المصروع أمام المعلم الجبار.. واظنهما من طينة نارية واحدة.. هذه الطينة مجبولة بحب مخيف للعمل المنجز المتميز ولاهما يرضيان عملا الا بطبيعة الرواد من متسلقي الجبال لانهما كانا يحرصان (بغرابة وحماسة عنيدتين) على ركز علمهما على طبيعة انجازهما، واتعبهما ذلك كثيرا، واتعبا من عمل معهما كثيرا.. لايعني بالضرورة ان تحب طريقتهما، ولايعني واجبا ان تكره مدرستهما وطبيعتهما.. لكنهما كانا مختلفين مؤثرين.. وهي سمة للكبار. كان محسون جلال قد خلع الروب الجامعي وحاول ان يلبس عباءة رجل الاعمال، الا ان طبيعة الروح القلقة التي تثب من مكان غامض في عبقر تجعل استاذيته تطغى، وريادته تسود فتقود. فهو يريد بناء مجد اقتصادي، لم يرد بناء ثروة مالية.. او انه اراد بناء ثروة مالية مشروطة بالمجد الاقتصادي.. كان يدفع ضريبة المفكر وان حمل حقيبة المستثمر.. كان يحب نفسه متميزا بل هو اكيد من ذلك.. على ان الحياة ليست دائما صفوفا من التلاميذ.. اعرف ان استاذي المهيب عانى من ذلك كثيرا، واعرف ان من عمل معه عانى كثيرا. اعذره واعذر من عمل معه!
الدكتور محسون لم يكن له من الحظ والملاءمة كما كان لزميليه في كلية تجارة الرياض اللذين قادا قطاعات كبرى في البلاد، غازي القصيبي وسليمان السليم.. ربما كانت عقليته البركانية السبب، الادارة الكبرى لاتتحمل الحمم!
هاتفني بعد مقالات كان يقرأها لي.. لم يكن يثني على اي منها.. بالنسبة لي، كان الثناء الاكبر ان رجلا عملاقا يهاتفني..
قال لي مرة: اوسكار وايلد يعتقد ان العمل لعنة تحيق بالعاملين.. قاطعته قائلا: يادكتور العمل نعمة.. وردد بضحكته المعروفة التي تأتي مكتومة من طرف فمه: نعم نعمة! نعمة!!
مضى زمن طويل على ذلك.. مازال صوته بنبرة حجازية حاذقة، باقيا طازجا في أذنى. معرفتي به قليلة، لكنها كانت.. نعم! نعمة.. نعمة!!