تسميه الفرنجة (سنوبيش)، وتسمية العرب (نفاجا)، فيقال: يا له من بجباج نفاج! وهي عبارة تشيرا الى من يفاخر بما ليس عنده، ويقلد الاخرين ممن هم اكثر رقيا او غنى او منزلة اجتماعية او ثقافية، يقلدهم في طريقة الكلام واللباس والهوايات والاهتمامات الاخرى. وهو سلوك غير واقعي لا يراعي تفاوت الاولويات، وتباين الاحتياجات. فاولويات عمرو قد لا تكون كذلك عند زيد. وكذلك فان اهتمامات او احتياجات مجتمع ما قد لا تشكل اية اهمية في مجتمع آخر. حيث تتفاوت تلك الاهتمامات تبعا لتفاوت ظروف المجتمعات المعيشية والبيئية والاجتماعية.
ففي الغرب، مثلا، يحاذر المعنيون بقضايا المرأة ان يزل لسان احدهم بعبارة يشم منها رائحة مناهضة للانوثة، فتلك تهمة يقام لها ويقعد. يذكر ويليس بارنستون راوي مذكرات الكاتب الارجنتيني (بورخس) موقفا طريفا من هذا القبيل حد له في احدث اللقاءات الثقافية العامة، حيث استخدم وهو يحاضر عبارة (لكل رجل) بدلا من عبارة (لكل شخص) التي تشمل الجنسين، عند ذلك انتشرت الوشوشات والهمهمات المعارضة لما اعتبره الحضور (رجعية) لغوية وتمييزا للرجال على النساء، ولم يشفع للرجل ماضيه الحافل بمناصرة قضايا المرأة، فقد كان بارنستون مهتما بالشعر النسائي، كما انه درس وبشكل منتظم منهاجا عن الشعر النسائي في جامعة انديانا، وتدل كل نشاطاته على انه ليس مناهضا للمرأة بأي شكل من الاشكال. وفوق ذلك كله فكلمة Man الانجليزية تعني من بين ما تعنيه (الانسان) من الجنسين طبعا كما ان كلمة mankind تعني البشرية.
ولاعجب ان تكون مثل تلك القضايا موضع جدل دائم هناك لان اهتماماتهم مختلفة الى حد كبير عن اهتمامات مواطني العالم الثالث. ذلك ان لهذا العالم اولويات معيشية واجتماعية تتعلق بالرجل والمرأة على السواء، وهي اكثر الحاحا من ذلك التدقيق اللغوي الذي اهتم به الحضور في تلك القاعة. لكن قل لي ما هي اهتماماتك اقل لك من انت، واين تعيش، وكيف تعيش!
قد يصبح اجراء عملية تجميل لمنقار بطة في احدى مدن الغرب شغلا شاغلا، وحدثا بالغ الاهمية، وقد يشغل ذلك الحدث حيزا على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون، وقد تنهال الاتصالات للاطمئنان على صحة البطة المدللة، وقد يدفع مالك البطة مبلغا طائلا لعملية التجميل تلك. وهنا ينبغي علينا ان نكون اكثر تأدبا مع البط فنقول (صاحب البطة) بدلا من مالكها، حتى لا نغضب جمعية للرفق بالحيوان اقترحت مثل هذا التعديل من قبل. لكن ذلك كله يبدو مضحكا، ان لم يكن ضربا من الجنون بالنسبة لمواطن من العالم الثالث (عشر) محاصر بقائمة طويلة من المنغصات المعيشية من شروق الشمس الى غروبها. هذا اذا اسقطنا من قائمة المنغصات ما يراه في نومه من كوابيس مزعجة.
ان المحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والحال هذه، بحاجة الى اكثر من عملية تجميل - بدلا من تجميل منقار البطة - كي يستطيع الفرد الغلبان الالتفات الى مثل تلك القضايا. ومن ثم فان الظروف المعيشية والاجتماعية هي التي تحدد شكل تلك الاولويات. حتى الآداب والفنون الجميلة فانها لا تزدهر الا في في بيئات الرخاء والاستقرار. وحسب تعبير احد المفكرين الروس فان الاحذية قد تصبح في بعض الحالات اهم من مسرحيات شكسبير، فما بالكم بتجميل منقار بطة.
ان الهم اوالشاغل البشري يصلح، احيانا، مؤشرا جيدا لمعرفة الفارق المعيشي بين بيئة واخرى، وقد يكون اكثر صدقا ودقة من المؤشرات التي تتكئ على الارقام، مثل معدلات النمو، والناتج الاجمالي القومي، ومتوسط دخل الفرد. ولك ان تعجب احيانا من اثارة بعض القضايا التي مازالت شكلا من اشكال الكماليات في مجتمع مازال مفتقرا الى تحقيق بعض الضروريات. حتى علماء الادارة قد حسبوا حساب تلك الفوارق في صياغة نظرياتهم الادارية، فوصفات التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تصلح هنا قد لا تصلح هناك. فاذا تجاهل المنظرون هذه الحقيقة تعذر تطبيق ذلك على ارض الواقع.
ان اثارة مثل تلك القضايا شكل من اشكال الغفلة. وهو يذكرنا بالنكتة التي تروى عن غفلة ماري انطوانيت التي نصحت جياع باريس باكل الكعك او الـ (جاتوه) مادموا لا يجدون خبزا يأكلونه. وقد ابتلي بعض المثقفين العرب بهذا (الهوس الثقافي والفكري) فرفعوا لافتات بعيدة عن اهتمامات واولويات الواقع واقتاتوا على موائدها زمنا طويلا. كانت النوايا حسنة بالتأكيد، لكن اللافتات لم تكن قابلة للاستهلاك وذلك لعدم اكتمال شروط استهلاكها. كان ذلك شبيها بمناقشة قضايا مجتمع ما بعد الحداثة في مجتمع لم يمر بالحداثة بعد. وقد عبر دريد لحام في مسرحية (كأسك يا وطن) عن هذه الشريحة من المثقفين، ممن كرسوا وقتهم وفكرهم للدفاع عن كل قضايا الارض ونسوا قضاياهم المعيشية الملحة.
ان المواطن في العالم الثالث على استعداد للتفاعل مع تلك القضايا، والاهتمام ببقية مخلوقات الله على هذه الارض من حيوان وطيور وحشرات، وعلى استعداد لتبني قضايا اخرى مثل الحفاظ على حياة اسماك الفقمة على شواطئ بلاد الواق واق، واعادة توطين القطط التائهة في الشوارع - توجد مواقع على الانترنت لتبني تلك القطط المدللة - كما انه على استعداد لنعي وتأبين شجرة البلوط، كما فعل انصار البيئة ومحبو الطبيعة قبل ايام عندما توفيت شجرة بلوط عن عمر يناهز ستمائه عام، ناهيك عن استعداده للمشاركة في قضايا العالم السفلي. انه على استعداد لان يؤدي كل تلك الفروض واكثر اذا ما أمنت مطالبه اليومية البسيطة.أما وان البيت ضيق، والبساط والفرشة ضيقة، والعيشة ضيقة كما يعبر دريد لحام في المسرحية ذاتها فانه قد لا يجد الوقت الكافي لتقليم اظافره، ولا المزاج الرائق للحدث مع زوجته، ناهيك عن التعاطف مع بني جنسه من البشر.