تعصف بالعالم الذي نعيش فيه متغيرات سريعة خاصة في المجال المعلوماتي تسببت في احداث شروخات كبيرة في المجتمعات المدنية بالدول النامية. ومن اسباب ذلك تدني القدرة الاستيعابية لهذه المجتمعات لتلك المتغيرات نتيجة ضعف البنية التحتية وكذلك غياب البعد التخطيطي والاستشراف المستقبلي مما جعل من المتغيرات العالمية كأنها صدمة حضارية للمجتمعات النامية سواء على مستوى المجتمع كبنية متكاملة او على مستوى الشرائح المختلفة ومن ثم الافراد.
فكان لابد من الانقسام المجتمعي جراء هذه الصدمة اذ افرز ذلك ظهور انماط بشرية مختلفة في المجتمع. اولها هو ذلك النوع الذي انجرف بقوة خلف هذه المتغيرات وما لحق بها من ثقافة حتى وان كانت على حساب الثقافة المحلية. هذا النوع يكاد ينسلخ من جلدته اذ يتظاهر بالتمدن والعصرنة والتقليد ويرى ان ثقافته هي ضرب من المفاهيم المتخلفة عفى عليها الزمن ولا تتناسب مع العصر المتطور الذي نعيش فيه.
وتجده ناقدا لكل ممارسات المجتمع فهو انسان مزدوج المعايير, والسبب في تمسك مثل هؤلاء لهذاالنمط هو احساسهم بأن ذلك سيضفي عليهم صفة التمدن والتحضر وان العامة ستنظر اليهم نظرة الفوقية كما انهم متظاهرون بالثقافة من خلال فلسفتهم التي لا تتجاوز تأثيراتها حدود افواههم. وهؤلاء لا خطر منهم على المجتمع انما على انفسهم من التقوقع داخل البوتقة الفوقية التي يعيشون فيها وتمثل طاقة مهدرة وتسرب فكري لافائدة للمجتمع منه وقد يصورون انطباعا كاذبا عن المجتمع امام الآخرين بانه مثقف من خلاله.
اما النوع الآخر من الناس فقد ادار ظهره للمتغيرات العالمية وعولمتها وانصرف الى همومه الشخصية لايأبه هجوم مجتمعه اذ انصب كل همه في جلب الرزق له ولمن يعول وتراه يكاد يكون منعزلا سطحيا في تفكيره ومناقشاته يتسم بروح الانهزامية والتردد. وهم من يطلق عليهم (السلبيون) والذين يعيشون على هامش المجتمع لايؤثرون ولا يتأثرون همهم انفسهم واللهث وراء مطالب الحياة وبالمناسبة مثل هؤلاء تكون طموحاتهم بسيطة جدا بل ويتخوفون من تحمل مسؤولياتهم تجاه المجتمع فلو ادار المجتمع ظهره لمثل هؤلاء فهم على الدوام غائبون.
في حين ان النوع الثالث والاخير من الناس هو ذلك النوع الذي قاوم هذه المتغيرات بكل ما اوتي من قوة فكرية لا لشيئ إلا لأنه يعتقد أنها ضد معتقداته وقيمه من ناحية ومن ناحية اخرى كونها دخيلة ولم تأت من مجتمع ينتمي اليه. وتحتضر بين ضلوعه مواقف سلبية تجاه المجتمعات المصدرة لتلك المتغيرات ناهيك عن ان هذا النوع من الناس يستند في مقاومته انطلاقا من فكرة ان لم تستطع ان تهاجم الفكرة فهاجم صاحبها وهذا هو المنهج الذي تتبناه هذه الفئة. ولعلنا نقف قليلا عند هذا النوع لنعطيه حقا اكثر من النوعين الآخرين لما لهذا النوع من موقف مغاير قد يعيق الحركة التنموية للمجتمعات. وتؤثر هذه الفئة على المجتمع ولا تتأثر ولو كانت هذه التأثيرات ايجابية لتم قبولها ولكنها قد تكون سلبية وهو الارجح لانها قائمة على رفض الآخر والذي ينبغي ان نتعايش معه مما يجعل مثل هؤلاء يعيشون في حدود آخر قطعة من ملابسهم. والسؤال على من يؤثر هؤلاء؟ يقع تأثيرهم على من يتبنى طريقتهم في التعامل مع متغيرات العصر فهناك من الناس من لايؤمنون بالمتغيرات حتى لا يفقدون السيطرة على مايمتلكون من تسلط فكري ويخيل لي ان الشريحة التي يقع عليها مثل هذا التأثير كبيرة جدا. اذ ان المجتمعات نفسها ساعدت على نموها وازدياد اعدادها بسبب ماذكرناه من غياب البنى التحتية لاستيعاب المتغيرات وايضا غياب الخطط الاستراتيجية والاستشرافية المستقبلية. فاصطدمت هذه الشريحة بهذه المتغيرات ووجدت في ظل غياب ماذكرناه بان من اسهل الطرق هو كونهم تابعين لمراكز قوى مؤثرة حتى لاتنالهم الاتهامات بطريقة مباشرة.
ان هذه الفئة تعتقد ان الأخذ بمتغيرات العولمة وارهاصاتها من شأنه ان يفقدهم الهيبة والمكانة التي يقبعون على قممها اذ مع توافر المعلومة في كافة مجالاتها بالطبع ستقلل من الحاجة للاستعانة بآرائهم هم يعززون مثل هذه الفرضية على اعتبار انهم لو ارادوا الاخذ بمتغيرات العولمة فان ذلك يعني ان يتعلموا على مقارعة هذه المتغيرات ومجرد تعلمهم على اساليب ذلك يعني انهم استعانوا بالآخر والذي له منهم اتجاه مضاد اذا فالعملية في غاية التعقيد بل استطيع القول ان هذه الفئة يحق عليهم القول ان لم اكن مخطئا بأنهم حجر العثرة في تقدم المجتمعات.
والآن ما دور المجتمعات النامية لإحداث التغيير الذي يرقى بها ليس الى مصاف الدول المتقدمة بل الساعية للتقدم؟. ان المجتمعات النامية مطالبة بوقفة جادة لمعالجة رفض الآخر وانجازاته لان ذلك من شأنه ان يؤدي الى الزيادة في التخلف والتراجع عن ركب الحضارة التي يعيشها العالم. اضافة الى التوسع مع الهوة بين الطرفين.
انه من الصعب بمكان في هذه المرحلة ان يلحق العالم النامي بالعالم المتقدم لان المتغيرات سريعة جدا ولن تقف لنلاحقها ولكن على الاقل نبدأ من حيث ما انتهوا اليه ولا نبكي على اللبن المسكوب اذ ينبغي ان تصل المجتمعات النامية الى درجة ان تجعل الربط بين استيعاب المتغيرات وتحقيق الحاجات امرا حتميا لامفر منه. في هذه الحالة سنرى أفراد المجتمع يهرعون الى استيعاب هذه المتغيرات طمعا في تلبية حاجاتهم ولكن طالما ان هذه الحاجات تجد طريقها بجاهزية متكاملة الى هذه الفئة فلن يأبهوا بهذه المتغيرات وستظل المجتمعات النامية في مواقعها والعالم من حولها في نمو مزدهر. وانني لا أنكر ان هناك من الاساليب والوسائل المتعددة التي قد تحقق هدف استيعاب هذه المتغيرات من فئات المجتمع المختلفة وقد لاتكفي هذه المقالة لاستعراضها ولكن رأيت ان ربط المتغيرات بالاحتياجات الفردية علها تكون انجع هذه الاساليب. وفي نفس الوقت لا اميل لاجراء المزيد من الدراسات والبحوث الطويلة المدى والتي ما ان تظهر نتائجها حتى ازيلت اسباب اعدادها بل اميل الى ما اطلقت عليه البحوث الاجرائية تلك السريعة التي تظهر توصياتها وفق الامكانات المتاحة كما علينا الاستفادة من نتائج الدراسات السابقة سواء على المستوى المحلي او العالمي ويظل الامر متعلقا بناصية هذه الدراسات حتى يستقيم الوضع ونلحق بالآخر ونتعايش معه.