يقول لويتار في معرض حديثه عن مفهوم ما بعد الحداثة التي حددها بـواقعية ( أي شيء يصــلح ) :" تلك هي في الحقيقة واقعية النقود , ففي غياب المعايير الجمالية يظل من الممكن والمفيد تقييم قيمة الأعمال الفنية طبقا للأرباح التي تغلها " ( الوضع ما بعد الحداثي 105)
ومن هذا المنطلق يصبح الفنان أو الكاتب فيلسوفا في مرحلة ما بعد الحداثة , ولا يحكم النص الذي يكتبه والعمل الذي ينتجه من حيث المبدأ معايير مسبقة , وإنما يحكمها شيء واحد : الربح .
هذه الواقعية تعيدنا إلى قضية شغلت النقاد العرب قديما وهي ما كان يطلق عليها ( التكسب بالشعر ) , حيث استهجنوا هذا التوظيف , الذي يعد في رأيهم من الأمور التي أفقدت الشعر مكانته وقيمته .
ومن المعلوم أنه كان للخلفاء مؤسسة مالية خاصة تدعى : (بيت مال الشعراء) , خصصت لهبات الشعراء , التي تصل إلى مبالغ كبيرة تغري الشاعر بالاستمرار في هذا النهج . ومرد استهجان العرب للتكسب بالشعر يرجع إلى أن الشعر يتحول من فن له قيمته إلى فن يخضع للقيمة النفعية .وإذا ما تم ذلك تحول الشعر إلى حرفة ، وخضع لقوانين العرض والطلب ، فيفقد الشعر - كما يقول ابن خلدون - شرف الاسم نتيجة التكسب فيبتعد عن الأصول الفنية .
لقد كان الشعر عند العرب أرفع منزلة من الخطابة فلما تكسبوا به صارت الخطابة فوقه.
والنقاد التفتوا إلى الجوانب الفنية في الشعر وكيف تضعف في قصيدة التكسب عن غيرها , بل لاحظوا الفرق في القصيدة الواحدة بين مطلعها وغرضها .
وعلى الرغم من غزو التكسب للشعر العربي إلا أنه كان محدودا بفئة من الشعراء , وبقصائد محددة عند الشاعر نفسه , فبعض الشعراء امتنعوا عن التكسب بشعرهم , كما أن الشاعر المتكسب يتكسب في لون واحد من الشعر هو المديح , ومرتبط بشخص واحد في الغالب هو الخليفة , أو من يمنحه المال .
أما في عصر ما بعد الحداثة فإن التكسب ارتبط برؤوس الأموال , وهنا يختلف الأمر تماما , ذلك أن الكاتب يسعى إلى الربح من خلال إرضاء شريحة كبيرة في المجتمع , هي الشريحة المستهلكة , لا إرضاء شخص واحد , قد يكون ناقدا للشعر , كما كان في السابق