هذا هو الشعار اللفظي الذي رفعه ابني (عبد الرحمن) في الآونة الأخيرة وتحديدا عند اقترابنا من بوابة مدرسته! نعم, عبارة أضحت تطرق سمعي كل صباح ولم أكن أعيرها اهتماما لا لشيء إلا لعدم انتباهي لمدلولاتها ولخبيئة نفس قائلها الصغير..!! آه.. آسف هذا ما كنت لفرط غفلتي عن ركضة السنين وجريان العمر وتوقف الزمن لدي, أعتقده فقد أضحى الصغير كبيرا واقترب من مقارفة سن البلوغ! وما كان لمقولته تلك أن تمر علي هكذا دونما تعليل خصوصا أنها قيلت متزامنة مع التغير النفسي والإدراكي المرادف لنمو الجسد الحسي والظاهري! أما الذي فهمته بعد حين أو بالأحرى أفهمته من قبل والدته, أن تلك المقولة كان الهدف من ورائها أن نبتعد بوقوفنا عن باب المدرسة ومن ثم عن أعين اقرانه وزملائه حتى لا يتسنى لهم رؤيته (الابن الاكبر) وهو يمتطي تلك المركبة (السيارة) البسيطة الصغيرة!! لم يكن استغرابي لهذا التصرف إلا لعلمي بأن هذا الابن كان من الداخل (البيت) محصنا ضد أي فكر غير رشيد أو غير سوي أو عقلاني! خصوصا فيما يتعلق بأمر الظواهر أو المظاهر الاجتماعية التي أراها أقرب إلى الشذوذ منها إلى السواء نعم لم يكن هذا الابن يتعرض إلى موجات دعائية من تلفاز تغريه بامتلاك أفخم الأدوات ولا المستلزمات إذ حيل بينه وبينها (ولا داعي لذكر الكيفية فهي معلومة وما أيسرها لمن أراد التطبيق ولم يجعلها عقبة!) كما أنه سرعان ما يجد ردا مقنعا ومفحما عندما تجري على لسانه كلمات تمجد أنواع سيارات فارهة عند مرورها قريبا منا أو عند رؤيتها ولو من بعد! يقودها أغرار إذ لا أفوت حينها الفرصة بل أجدها سانحة لأعطيه درسا سريعا أكرره دائما كلما تكرر المقام والمقال! لينطبع في ذهنه فيفيده في قابل الأيام كنت دائما أقول له عندما أراه مشدوها إلى سيارة ثمينة (المهم العقول!) وأن تلك التي تمتدحها ليست مقياسا لأهمية راكبها بل هي لا تعدو أن تكون وسيلة وليست غاية في حد ذاتها! أقول على الرغم من كل تلك المصدات الداخلية التي بنيناها في نفسه, كان للببئة عليه تأثير واضح وإن كان أقل ممن لا رادع لديهم ولا مصاد! إن أبناءنا في خطر حقيقي من تلك المؤثرات التي ألفى معظمهم نفسه يصارعها وحيدا من غير ما عون من مربين داخل الأسرة وفي المدرسة ولما لم تحتمل أنفسهم الضعيفة ذلك , انساقوا وراء المغريات المادية والمظاهر الخلابة في كل ما يتعلق بحياتهم الخاصة, فلم تر إذ ذاك إلا كيانات بشرية من جملة الظواهر وأما الباطن فلو أفرغت فيه ماء البحر لوسعه من بحبوحة فراغه! أعجب من آباء أعانوا أبناءهم على استمراء الترف والإيغال فيه وكأننا لا نزال نتمرغ في أحضان تلك الطفرة التي أصابتنا ولم نفق بعد من أحلامنا الوردية أو بالأحرى كأننا لا نريد أن نعترف بذلك إذ الاعتراف معناه الإقرار بما هو واقع والواقع حقيقة مؤلم ولعل ما هو قادم من استقراء الواقع أشد سوداوية مما يتصور! والله يلطف بأحوالنا. لا أدري لماذا لا نجاري الواقع في تصرفاتنا الحياتية ليراها الأبناء تطبيقا عمليا ومن ثم يتم إفهامهم أن الإنسان العاقل ينبغي عليه أن يساير الحياة التي يحياها وفق ما أتيح له من إمكانات وأن أي تجاوز لذلك من قبله تحت أي مبرر كان يعد في حقيقة الأمر حمقا وغفلة! نعم.. ليس من العقل بمكان أن ترى صغارا لا تزال خلايا عقولهم في طور التكوين ويحمل أحدهم في يده جوالا ويركب سيارة باهظة الثمن ويلبس ثيابا لا تخال لابسها إلا إميرا كبيرا أو مسئولا خطيرا وكل ذلك السرف الزائد (والفشخرة الكاذبة) لم تكن لتصبح بهذا الحجم المأساوي ولم كان هناك آباء عقلاء أودعوا أبناءهم حكمة السنين التي عاشوها والتي يعبر عنها ذلك المثل الشعبي القائل (كل يمد رجوله على قد لحافه!) أوضح تعبير . ختاما لابد لكل مجتمع أن يعتريه الخفض بعد الارتفاع والحوجة بعد القدرة وأبناؤنا الذين تعج بهم المطاعم وتحتويهم المراكب الفاخرة والألبسة الراقية من غير ما تعب يسبق ذلك غير مهيئين أبدا لأي طارئ يصب في خانة السوء فهلا أعناهم على ما قد يكون قادما وقاتما, أم ترانا نمتطي ظهر المقولة الشعبية الدائمة (الله يريد بنا خير)! فاصلة: سأل أحدهم ممن يملكون ضميرا واعيا وكان من الأثرياء أحد العلماء قائلا: أريد أن أشتري سيارة ثمنها يتجاوز الربع مليون, فهل علي من إثم في ذلك؟! فسأله الشيخ: كم تقدر ثروتك؟ فلما أخبره بالمبلغ وكان مهولا ما كان من شيخنا الفاضل إلا أن رد عليه ببساطة: لمثلك صنعت هذه السيارة! رد ولا أجمل! فأين المدركون! اللهم إجعلنا منهم.
@@ د. إبراهيم عبد الرحمن الملحم