منذ أن اعلن الرئيس الأمريكي بوش في كلمته عن حالة الاتحاد بأنه قد وجه تعليماته لوزير خارجيته بالكشف عما لدى ادارته من أدلة عن عدم تعاون النظام العراقي بل وخرقه ماديا للقرار 1441 حول نزع أسلحته، اقول منذ ذلك الوقت والعالم يحبس أنفاسه بانتظار ما ستكشفه امريكا وما قد تؤول إليه الأمور في ضوء ذلك من تطورات دراماتيكية خطيرة على المنطقة، وما ان عقدت الجلسة التي وصفت بالتاريخية حتى تبين ان ما كشفه الوزير باول لم يتجاوز معلومات من مصدر استخباراتي أحادي يمكن ان توحي - وهو لا يتجاوز مجرد احتمال قابل للصواب والخطأ- بامتلاك العراق اسلحة دمار شامل يحاول أخفاءها، وبعد إكمال الوزير باول عرضه بدأت الدول الأعضاء بتوضيح مواقفها التي جاءت بين المتحفظة على دقة ودلالة هذه المعلومات وبالتالي مطالبتها بضرورة منح لجنة المفتشين مزيدا من الوقت وبين المؤيدين للرأي الأمريكي بضرورة تفويض أمريكا بشن حرب تأديبية تستهدف النظام العراقي، ثم امتدت حالة الترقب وحبس الأنفاس إلى جلسة مجلس الأمن يوم امس الجمعة للاستماع للتقرير الثاني للمفتشين وقد تستمر هذه الحالة التي افرزت تجاذبات سياسية بين الكبار بدت وكأنها تعيد تشكيل تحالفات مغايرة لما كان معهودا في الماضي، وايا كانت النتيجة التي ستؤول اليها هذه المساجلات السياسية في أروقة مجلس الأمن وبغض النظر عن الاهداف الحقيقية للولايات المتحدة في استهدافها العراق، فمن المؤكد ان الولايات المتحدة قد حزمت أمرها وجمعت عدتها لشن الحرب على العراق سواء وافق مجلس الأمن أم لم يوافق.
وليس المهم هنا أن تصدق الولايات المتحدة في دعواها أم لا، وليس المهم أن يصدق النظام العراقي في دعواه أم لا بل أن الأهم من كل ذلك أن ما تتم ممارسته على مجلس الأمن يعد سابقة خطيرة ستفرز نتائج وخيمة تتمثل في عدة امور:
اولا: إن دور المؤسسة الدولية في حفظ الأمن والاستقرار والسلام الدولي - وإن كان ضعيفا ومحدودا وانتقائيا - اصبح يواجه تحديا في مصداقيته بل ان استمراره هو موضع شك وذلك من خلال اقدام الادارة الامريكية على سوق دول العالم للاختيار بين امرين احلاهما مر، فإما تأييدها في سياساتها ومواقفها والجري خلفها أينما ذهبت وهي تمارس سياسة لي الذراع على الجميع في ذلك، أو أنها ستتخلى عن المؤسسة الدولية بحجة انها لم تعد قادرة على ممارسة دورها وبالتالي ايجاد حالة خوف من فوضى سياسية محتملة سيكون كل الكبار من الخاسرين فيها.
ثانيا: وحتى لو استمرت المؤسسة الدولية تمارس دورها، فإنها ستواجه خللا فاضحا في المصداقية والموضوعية من خلال انتقائيتها في تطبيق قراراتها وانحيازها لصالح بعض الاطراف ضد آخرين، وهو ما سيولد حالة غير مسبوقة من القهر والاضطهاد والتململ في العديد من نقاط الصراع والاضطراب في العالم قد تفجر حممها وغضبها باتجاه الانتقام الأعمى من أمريكا.
ثالثا: إن انتهاج سياسة تغيير انظمة الدول الخارجة عن بيت الطاعة الامريكي باستخدام القوة العسكرية الخارجية تحت عنوان المحافظة على هيبة وارادة المجتمع الدولي سيعيد التاريخ للوراء باتجاه حقبة الاستعمار المكشوف بكل آلامها وتشنجاتها، بل والتسليم لأمريكا بتكرار تجربتها في أفغانستان والعراق مع كل الدول التي قد لا تتوافق والمصالح الأمريكية، بل ان الأمر قد تجاوز أكثر من ذلك بالنسبة لامريكا الطامعة حيث ابدت لا مبالاة ليس للشعوب والدول المعارضة فحسب، بل ولأقرب حلفائها في حلف الناتو حتى بدت وكأنها ستعيد صياغة احلافها وعلاقاتها مع العالم ككل وبما يعزز من مكانتها كقوة عظمى وحيدة لها وحدها كلمة الفصل في العالم ككل.
رابعا: هل يجوز - حتى لو كان العراق يكذب بشأن امتلاكه اسلحة دمار شامل - أن يعاقب بشن حرب مدمرة عليه لن تستهدف مقدرات شعبه ووحدة اراضيه فحسب بل وأمن واستقرار كل دول المنطقة، وبمعنى آخر هل وجود مثل هذه الشكوك تجاه اي دولة يبرر تهديد أمن واستقرار دول أخرى لا تملك ذنبا الا الجوار الجغرافي، وهل مجرد وجود شكوك لدى اي دولة حول مصدرخطر محتمل يهددها يعطيها حق الردع والحرب الوقائية وهل ذلك يسوغ لكوريا الشمالية الإقدام - حسبما تصرح به- على ضربة وقائية للحشد الأمريكي ضدها.
خامسا: هل يجوز ان تصبح المعلومات الاستخبارية - والتي لا تصنف عادة بالأدلة القاطعة - اساسا يعتد به في ادانة هذا الطرف او ذاك وهل هي حق لكل الدول المتنازعة، وهل نحن بصدد التمهيد لمرحلة تحكمها عمليات مخابرات الكباروالاعيبهم بكل ما يملكون من وسائل تجسس وتنصت وتصوير واستشعار عن بعد وغيرها والتي قطعا سيضيع فيها كل الصغار ممن لا تملك أجهزة استخباراتها حولا ولا قوة غير كبت حريات شعوبها وملاحقة الخارجين عن طاعتها.
إن أمريكا عندما تقدم على الحرب فهي والنظام العراقي والعالم أمام اختبار مصداقية لن يدفع ثمنها غير شعوب المنطقة، فاما ان يكون النظام العراقي كاذبا وبالتالي فهو يمتلك بالفعل اسلحة دمار شامل ويعمل على تطويرها ومن المؤكد حينها انه سيستخدمها ضد من سيشاركون في الهجوم عليه من جيرانه وقد تفشل امريكا في صدها عندما ستكتوي امريكا وهؤلاء الجيران بنارها ويجتر الجميع مرارة دمارها لأجيال قادمة، فهل يا ترى ان اثبات امريكا لمصداقيتها يستحق هذا الدمار الهائل؟
وهل يمثل ذلك مبررا اخلاقيا مقبولا أمام العالم؟ وهل ستقبل شعوب المنطقة ادعاء أمريكا بالحذر والخوف والتوقي من تعاظم تهديد محتمل كمبرر لتعجيل وقوع دمار شامل يصيب المنطقة؟ ومن جهة اخرى لو تبين ان العراق لا يملك من اسلحة الدمار الشامل شيئا فبماذا تعتذر للعالم ولدول المنطقة وللشعب العراقي عن الدمار الذي سيصيب العراق والمضاعفات السلبية التي ستنعكس على دول المنطقة، هل ستكتفي بالادعاء انها ساعدت في التخلص من نظام تصنفه بالدكتاتورية وهو في نظرها فتح كبير؟ وهل ستقبل بالانسحاب السريع من المنطقة وتسليم الشعب العراقي لمقدراته وزمام أمره؟ ثم بأي مصداقية ستبرر امريكا اي مواجهة مستقبلية لها مع خصومها؟ الا ان يقول قائل ان امريكا ستكون حينها قد تجاوزت امر المصداقية بل لم يعد يهمها الآخرون ما دامت تحارب من اجل مصالحها.